المجتمع المدني يحمل شعلة الشهداء

عمر كبول

حملت الحِقْبة التي تلت آذار 2005 أملاً بالتغيير لدى شريحة واسعة من اللبنانيين، شاركت في صنع الحدث الجلل يوم 14 آذار 2005، والذي تمثل بخروج القوّات السورية العسكرية من لبنان، وجلاء سلطة الوصاية المباشرة على القرار اللبناني والتي كبدت لبنان خسائر فادحة، منها ما هو مادّي ومنها المعنوي.
فقد ساهم الإحتلال السوري للبنان وعلى مدى عقود ثلاثة، بتمزيق النسيج المجتمعي اللبناني، وتفريق اللبنانيين إلى شيَع ومذاهب، وبالتالي قامت سياساته ومخابراته على نسف حس الإنتماء الوطني الصرف للمواطن اللبناني، وبالتالي تعزيز مفاهيم "إحتلالية" تتناسب مع عقلية البعث السوري، وتلقى قبولاً من زعماء الطوائف الساعين دوماً لتكريس أحادية زعامتهم في مناطقهم، فحلّت الطائفية مكان المواطنية، والتيولوجيا الاستبدادية مكان الديمقراطية، والفساد مكان الشفافية، إلى ما هنالك من نظريات غوغائية ديماغوجية سعى جيش الاحتلال من خلالها لإلحاق "إقليم لبنان" سياسياً واقتصادياً وثقافياً بقصر المهاجرين، وضرب أسسه الثقافية والفكرية المتميزة التي قد تتيح له تحقيق استقلاله، وتجعل منه دولة قوية، مستقلة، ديمقراطية.
تميّزت الفترة التي تلت انسحاب الجيش السوري من لبنان بتحرك كبير للمنظمات غير الحكومية وللجهات المانحة، حيث كثفت المنظمات المذكورة حضورها في المناطق اللبنانية وبدأت تطبيق العديد من البرامج الهادفة لتنمية حس الإنتماء الوطني لدى اللبنانيين، من خلال ورش العمل الكثيرة المتعلقة بحقوق الإنسان، المواطنية، حل النزاعات، كما نشطت العديد من الجمعيات في مجال إعداد القيادات الشبابية وتنمية مهاراتهم في الحوار والإتصال والتواصل، إلى ما هنالك من برامج ساهمت في رأب الصدع الحاصل في القاعدة المجتمعية في لبنان.
على الرغم من الصعوبات التي واجهت المنظمات غير الحكومية، إلا أنها استطاعت وبفترة وجيزة من تحقيق عدد من الإنجازات، من حيث جمع الشباب اللبناني، ووضع اللبنة الأولى على طريق بناء لبنان الجديد، ولجهة نجاح حملات المدافعة العديدة التي أطلقتها عدد من الجمعيات والتي أفضت لتشريع قوانين عديدة وحديثة في عدة ميادين، أبرزها حماية المرأة من العنف الأسري.
الجمعيات الأهلية
يعتبر "رياض عيسى"، ناشط وباحث اجتماعي، أن الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية اللبنانية تتمتع بحضور فاعل ومميز في العالم العربي وهي رائدة في مجالي الثقافة والخدمات، علماً أن دورها خلال حقبة التسعينات كان بديلاً من دور مؤسسات الدولة إذ كانت نشاطاتها وبرامجها تقتصر على الرعاية والخدمات. يكمل "عيسى"، الجمعيات التي نشأت بعد آذار 2005 هي ذات طابع حقوقي قريب من السياسة بالمعنى الحقيقي للكلمة، بخاصة الناشطة في مجالات "المواطنة" و"حقوق الإنسان"، فمعظمها يحاول تأدية دور رقابي وسياسي، لتعزيز دور المؤسسات بطرح برامج تتكامل مع المؤسسات الرسمية في العديد من الميادين أو تسعى لطرح ما هو بديل وحديث.
وترى مديرة البرامج في "الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الإنتخابات"، "جوليا أبو كرّوم"، أن السبب الرئيس لنشأة الجمعيات الأهلية كان محاولة سد النقص الحاصل في كل الميادين المجتمعية منذ الحرب والذي تتحمل مسؤوليته مؤسسات الدولة، وبنظر" أبو كرّوم" أن التغيير الحاصل منذ العام 2005 طوّر نظرة الفرد للسياسة، فنشأت الجمعيات التي تعنى بالإنتماء الوطني، والتي تمكنت من تحقيق تنمية مهمة على الصعيد الوطني، إذ استطاعت ردم هوّة كانت قائمة بين أفراد وحزبيين، منهم من كان مؤيدا لأحزاب تكاملت خلال الفترة التي سبقت 2005 مع سلطة الوصاية ومنهم من كان مناصراً لشخصيات وقوى تم نفيها قسراً وإبعادها عن الحياة السياسية.
"إن نشوء الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية كان بمثابة رد فعل على عدم قدرة الأحزاب وعجزها عن استقطاب شريحة كبرى من الشباب نتيجة فقدان الثقة بين المواطن والحزب، وهكذا شعور تعزز بفعل شلل الأحزاب وعدم تمكّنها من طرح برامج سياسية تنموية"، بهذه الكلمات يلخّص الناشط الاجتماعي " علي حيدر" سبب نشوء الجمعيات وتكاثرها، وبنظر "حيدر" أن الشريحة الكبرى من اللبنانيين التي ليس لها أي ارتباط حزبي جرى استيعابها في عدد من الجمعيات الهادفة لتحقيق تنمية بشرية، وتعزيز قنوات التواصل السليم بين اللبنانيين والتي ما زالت تسعى لبناء القدرات المجتمعية في لبنان".
جمعيات
تعتبر "الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الإنتخابات"، من الجمعيات العريقة في مجال نشر ثقافة إنتخابية قوامها الديمقراطية والشفافية والعدالة، وكغيرها من الجمعيات التي تأسست خلال فترة التسعينات، لم تتمكن الجمعية من الحصول على العلم والخبر حينها، إذ رفض يومئذ وزير الداخلية ومن ورائه سلطة الوصاية الترخيص لجمعية تسعى لمراقبة العملية الإنتخابية والتأكد من نزاهتها وشفافيتها متهمين الناشطين في الجمعية بأنهم يسعون للعب دور يلغي وزارة الداخلية وصلاحياتها في تنظيم ومراقبة العملية الإنتخابية. تمكنت الجمعية من مراقبة كل العمليات الإنتخابية النيابية والبلدية وكذلك النقابية منذ العام 1996 حتى اليوم، وقد تمكنت من الحصول على العلم والخبر عام 2006.
أما "نحو المواطنية" وهي جمعية أُسست عام 2005، فانها تسعى لنشر وتكريس مفهوم "المواطنية" عبر استراتيجيات عديدة، منها برامج ترمي إلى توعية المواطن على حقوقه وواجباته، ومن هذه البرامج مشروع "بدي كون مسؤول" وهدفه تعريف طلاب المدارس على كل الأنظمة الإنتخابية، والآليات المرافقة للعملية الإنتخابية، تنظيم حملات المناصرة والمدافعة وتدريب المواطنين على كيفية تنظيمها للضغط على أصحاب القرار ودفعهم لتبني أي قضية أساسية تسهم في تقدم المجتمعات المحلية، كذلك أنشأت الجمعية مرصد الأداء النيابي، الذي يعطي المواطنين فرصة مراقبة أعمال ممثليهم في البرلمان، وتقوم حالياً بتنظيم حوارات هادفة لبناء مجتمع سليم وتقريب وجهات النظر بين اللبنانيين وإيجاد قواسم مشتركة بطرح مواضيع أساسية للنقاش، داعية إلى حل النزاعات بالحوار، ضمن برنامجها " نعم للحوار".
إضافة لجمعية " نحو المواطنية"، شهد العام 2005 بروز عدد من الجمعيات والتجمعات التي تسعى لإبعاد شبح الحروب ومظاهر العنف منها "حملة خلص" والتي كان لها حضور مميز يوم سفر القيادات اللبنانية إلى مؤتمر الدوحة في قطر، حيث قام ناشطوها بتوزيع منشورات على كل الأراضي اللبنانية تحمل أخباراً صحافية قد ابتكرها ناشطو "خلص" تؤكد انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتمكّن الأجهزة الأمنية من كشف كل المتورطين في الجرائم الإرهابية التي عصفت بلبنان، وكللت الحملة نشاطها بالمشاركة إلى جانب "إتحاد المقعدين اللبنانيين" باعتصام أمام المطار يطالب القيادات بعدم العودة من الدوحة في حل عدم إيجاد حلول مناسبة للأزمة اللبنانية.
"أنا أحب الحياة" ، شعار رافق اللبنانيين طويلاً ، على الطرق، وعلى الوسائل الإعلامية، على شكل دعوة للبنانيين لنبذ العنف والحروب وثقافة الموت التي كان الإحتلال السوري من أبرز مروّجيها، فنظم مؤسسو "أنا أحب الحياة" عدداً من المهرجانات التي سمحت للبنانيين من كل الفئات والإنتماءات بالإلتقاء معاً وكسر حواجز الخوف، واتخذت النشاطات أحياناً طابعاً فنياً كسهرة البيال احتفالا ً بسنة 2006، وفي أحيان أخرى طابعاً ثقافياً.
وإذا كان للسلم والحياة مؤيدون فللعلمانية مؤيدوها، "أمام 05" جمعية، يمكن القول إنها نشأت من روحية 14 آذار،قامت بإصدار منشورات وإعلانات تظهر خطورة الوضع اللبناني في ظل الطائفية المستشرية.
كان للمرأة حِصتها لدى الجمعيات التي تعنى بحقوق المرأة، ومن بينها " كفى"، كفى عنف واستغلال، حيث تمكنت الجمعية المذكورة من إيصال مشروع القانون الخاص بحماية النساء من العنف إلى مجلس الوزراء، في حال مرور القانون في المجلس النيابي قد نكون خلال الأيام القريبة أمام قانون عصري وحديث يضمن للمرأة عموما وللنساء المعنفات خصوصا حقهم بالمحاسبة، وحقهم في العيش بكرامة.
خلاصة القول، كان للجمعيات التي تعنى بالمواطن وحقوقه دور كبير منذ الإنسحاب السوري من لبنان، بعضهم نجح في إرساء مفاهيم جديدة وبعضهم الآخر أخفق، وقد أعادت حرب تموز الجمعيات إلى دور الرعاية والخدمة الإنسانية والإغاثة فشهد العام 2006 فورة جمعيات وتجمعات منها ما زال مستمراً في العمل ومنها من توقف.
نجاحات وإخفاقات
يعتقد "نزيه سنجقدار"، الناشط الإجتماعي والباحث في "الحملة المدنية للإصلاح الإنتخابي" ان العمل المدني الأهلي من سنة 2005 حتى اليوم حاول استثمار الفورة الشعبية التي انتجتها تحركات آذار 2005، فنجحت الجمعيات في تسويق فكرة العمل المدني والنشاط الاجتماعي لدى شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني وخصوصاً الشباب. ولكن المشكلة بنظر "سنجقدار" تكمن في اعتماد هذه الجمعيات على التمويل الخارجي الذي يغرقها في بيروقراطية قاتلة تجعل من العمل العفوي عملاً شبيها بعمل الإدارة العامة، وهذه نقطة ضعف لم تعترف بها حتى اليوم هذه الجمعيات. اما من جهة ثانية يكمل "سنجقدار"، إن العمل الاجتماعي او التوعية المدنية لاتزال عملية انتقائية بدليل ان احداث 7 ايار وما سبقها من اشكال العصيان المدني وقعت، وقد كان ابطالها شباب إما لم يصلهم المد المدني، وإما من الذين شاركوا في هذا الموجة إنما لم تقنعهم الفكرة كفايةً.
وبالعودة إلى الناشط والباحث الإجتماعي "رياض عيسى"، إن فعالية الجمعيات الأهلية ترتكز على أربعة عناصر، وهي:التجديد في الهيئات القيادية،إزدياد عدد طلبات الإنتساب،مشاركة الهيئات القاعدية بعملية صنع القرار،آليات المحاسبة ".
ويرى "عيسى" أن الكثير من الجمعيات تفتقر إلى هذه العناصر ومعظمها من الجمعيات الجديدة، إذ أن عدم إعطاء فرصة للمبادرات الشبابية والقيادات الشابة لتولي مناصب قيادية دفع هذه الفئة نحو إنشاء جمعيات جديدة وبهذه العملية تفرع عن الجمعية الأم عدد من الجمعيات ما لبثت أن أغفلت العناصر السابقة، ونتيجة لذلك عرف لبنان حديثاً عدد كبير من الجمعيات التي تجمعها قضايا مطلبية واحدة وتفرقها في بعض الأحيان الخلافات الشخصية، كتلك المتخصصة بالقضايا البيئية وقوانين السير، فعدد الجمعيات إلى إزدياد وكذلك التعديات البيئية وحوادث السير.
ويضيف "عيسى" ان ارتباط استمرارية العمل الأهلي بالتمويل الخارجي أدى إلى ظهور ما يعرف بالجمعيات الموسمية التي تقوم بتغيير أجندتها حسب اهتمامات الممول كتلك التي نشطت في الآونة الأخيرة في ميادين ليست ضمن إطار اختصاصها المباشر، فتحولت إلى الاهتمام بقضايا كحقوق الإنسان وحل النزاعات التي لم تكن أساساً ضمن أولوياتها.
على الرغم من الإخفاقات التي أحاطت بالمجتمع المدني اللبناني، ومنظماته، يبقى ذات تجربة رائدة في هذا الشرق الجاثم في أقبية الديكتاتوريات، وبالرغم من المحاولات المستمرة لإسكات صوت الجمعيات الأهلية، لا تزال ذات سطوة وتأثير، تحديداً تلك التي لم تتأثر بالإنقسامات السياسية، والتي لم يتسلل الفساد والزبائنية إلى هيكليتها، فمنها من خاض ولا زال يخوض معارك لإصلاح النظام اللبناني، إن كان على صعيد إصلاح النظام الإنتخابي، أم تنظيم الإعلام ووقف حملات التحريض الطائفي على شبكاته، مروراً بحقوق المرأة وبخاصة حقها بإعطاء الجنسية لأبنائها والقضاء على كل أشكال التمييز، والجمعيات التي تنادي بإلغاء الطائفية، حق الأطفال ببيئة ملائمة لنموهم، جمعيات مكافحة المخدرات، والسيدا، الجمعيات البيئية والتوعية على قوانين السير، الجمعيات الناشطة بغية خلق لبنان ديمقراطي علماني، لبنان دولة حديثة تكون المواطنة هي معيار العلاقة بين مواطنيها والسلطة وليس الطائفة.
بالفعل لقد كانت المرحلة التي تلت انسحاب الجيش السوري من لبنان بعد مرور خمس سنوات على تحريره من العدو الإسرائيلي فرصة نادرة ومازال في الامكان الإستفادة منها لبناء دولة المدنية، بعيداً من الأنظمة المخابراتية والأمنية والعسكرية، وواجب على المواطن تقديم الغالي والرخيص من اجل تغيير النظام الحالي، بالضغط لتحديث بعض القوانين وتعديلها، وإلغاء غير الصالح منها.