نصف سكان العالم يواجهون نقصاً في المياه في 2030

تغطّي المياه ثلثي الكوكب، لكنها تبقى بالنسبة إلى عدد متزايد من سكّان المعمورة سراباً في عالم يزداد تصحّراً. واقع يهدد بتفجير الحروب والنزوح الجماعي، بحسب تقرير حديث أصدرته الـ«يونيسكو» سيمثّل مادّة أساسيّة لـ«ملتقى المياه» الذي تبدأ فعاليّاته في إسطنبول اليوم

لا يزال الحصول على مياه الشرب والخدمة بانتظام هاجساً يومياً لا يقل عن الصراع من أجل تأمين لقمة العيش والتمسك بالحياة. ويمثُل خطر انحسار الاستثمارات اللازمة لتأمين مصادر ثابتة للمياه، بنتيجة الأزمة المالية العالمية، عاملاً مسارعاً لعودة وحش الغلاء الفاحش، ولتفشي المجاعات وزيادة الهجرات المليونية ونشوب حروب البقاء، كما تحذر منظمة الـ«يونيسكو» في تقريرها الجديد «الماء في عالم متبدّل».
وتبدأ في إسطنبول اليوم فعاليات الملتقى الخامس للمياه، الذي يشارك فيه 30 ألف زعيم ووزير وعالم يناقشون مشاكل نقص المياه وظاهرة الاحتباس الحراري وتضخّم عدد سكان الأرض. يشخّصون المشاكل ويصفون الحلول على مدى أسبوع كامل. والعالم العربي يشارك بوفود رفيعة المستوى تحمل همّ تقاسم المياه أو تأمينها.
فالدول العربيّة لا تملك القرار في تقاسم المياه بفعل اختلال التوازنات السياسية والعسكرية مع إسرائيل من ناحية، وتركيا من ناحية أخرى. وإذا كانت بعض الدول العربية مقتدرة مالياً، فإنها وجدت حلولاً بحرق مواردها النفطية والغازيّة، المهددة بالنضوب خلال عقود معدودة، في تحلية مياه البحر، مستخدمةً تقنيات ملوثة للبيئة ومكلفة للغاية. عملية مستمرة منذ نصف قرن، كما يحدث في دول الخليج وينتقل إلى دول أخرى.

تقرير المنظّمة الدوليّة هو الثالث منذ 9 سنوات، وفيه تركيز على المناطق التي تأخّرت في تلبية احتياجاتها المائية وأهملت الاستثمار في هذه الثروة الحيوية. وتندرج منطقة الشرق الأوسط وصحراء أفريقيا بين أكثر المناطق عرضة لمشاكل نقص المياه.
ويتوقع التقرير أن يشهد 47 في المئة من سكان العالم (النصف تقريباً) بحلول عام 2030 نقصاً حاداً في المياه، ما يؤدي إلى التوتر وحصول هجرات جماعيّة نحو المناطق الأوفر حظاً. ويتوقع أن يشهد النزوح مستويات تخلّ بالتوازنات الاجتماعيّة في الدول الطاردة والدول المستقبلة، بحيث قد يبلغ عددهم 700 مليون نسمة خلال 20 عاماً، لذا يحث على مضاعفة الاستثمار في حفظ المياه وتنمية مصادرها. ويقول إنّ كلّ دولار يُستثمر في المياه يعود على أصحابه بما بين 3 دولارات و34 دولاراً، وهو مردود لا يضاهيه أي استثمار آخر.
ويتحدّث التقرير عن تركيا كمثال لتنمية مناطق فقيرة ورفع مستوى معيشة الفرد في الأرياف ليقترب من مستوى سكان المدن خلال بضعة عقود. فمنذ سبعينيات القرن الماضي نفذت أنقرة مشاريع لبناء شبكة سدود «غاب» بحيث أصبحت الطاقة التخزينيّة لديها على صعيد نهر الفرات فقط تتجاوز 90 مليار متر مكعب من المياه، أي أكثر من حصة العراق السنويّة من مياه الفرات على مدى 5 سنوات.
ويشير التقرير إلى أنه لم يعد الاعتماد على المطر وتساقط الثلوج والآبار الجوفية خياراً يُركن إليه لتأمين إكسير الحياة الشفاف. فدورات القحط باتت أقصر وأسرع وتيرة نتيجة ارتفاع حرارة الكوكب والتصحّر الزاحف شمالاً وجنوباً. وإذا كان العديد من دول الشرق الأوسط قد لجأت إلى إجراءات قاسية لترشيد استهلاك المياه من نوع التنقيط في الري، فإنّ النمو الكبير في عدد ساكني المدن يضاعف الاحتياجات المائيّة، بينما لا يجري الاستثمار في وقف الهدر وتأمين السدود والخزانات الكافية.
وفي هذا الصدد يقول التقرير إنّ الزراعة تستهلك 70 في المئة من موارد الماء، وعليه فإنّ أيّ نقص في الأمطار أو منسوب الأنهار يرتد سريعاً على كلفة المواد الغذائية، ويتوقع أن يترتب على الأزمة المالية الحالية التي جعلت الحصول على قروض أصعب من أي وقت مضى، ارتفاع قريب في أسعار المواد الغذائية قد لا يقلّ فداحة عن الغلاء الذي شهده العالم بين عامي 2007 و2008. فكثير من الدول الزراعيّة في شرق آسيا كانت تعتمد مباشرة على الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة (أي في المزارع والحقول)، أو من السياحة الكثيفة. وباستثناء بعض الاستثمارات الصينية والعربية في تلك الدول، يشهد بعضها إعادة رساميل إلى الدول الصناعية التي تعاني أزمات سيولة.

وتناول التقرير أيضاً نموذجين من الدول العربية المتأثرة بالجفاف. هما تونس والسودان. فـ«تونس الخضراء» بلاد شبه قاحلة نظراً لتناقص مخزونها المائي وتمدّد الصحراء على حسابها. فالمساحات الزراعيّة فيها تصل إلى 49 ألف كيلومتر مربع من أصل 110 آلاف كيلومتر مربّع صالحة للزراعة. وحرارة الجوّ ارتفعت بمعدل 1.2 درجة مئوية خلال القرن الماضي، وهي زيادة كبيرة باهظة الكلفة.
وأدّت سياسة توفير مياه الشفة ومياه الري بسعر مدعوم حتى التسعينيّات من القرن الماضي إلى الاعتقاد الخاطئ بأن مصادر المياه غزيرة، ما سبّب سرعة نضوب الآبار الجوفيّة وانخفاض مستوى السدود والخزانات، لذا رُفعت أسعار خدمة المياه بوتيرة متسارعة في العقد الماضي، بحيث اضطرّ السكان إلى ترشيد الاستهلاك وزيادة الاعتماد على تنقية مياه الآبار الارتوازية شبه العذبة، ولا سيما في المدن السياحيّة الشرقية التي تستهلك كميات كبيرة من الماء.
غير أنّ النمو السكاني الكبير في تونس، وزيادة عدد المدن وسكانها، يهدّدان بتعريض البلاد لضغوط إضافيّة لتأمين المياه. وهذا يقتضي، بحسب الدراسة، تنفيذ مشاريع كبرى لتنقية المياه من البحر، فضلاً عن إعادة تكرير مياه الخدمة في المدن نفسها وإقامة صناعات عليها.
أمّا السودان، أكبر الدول العربية وأوفرها مساحة زراعية، فقد عانى منذ ما قبل الاستقلال في عام 1956 إهمالاً في قطاعه المائي الغزير. وتقول الدراسة إن 80 في المئة من سكان السودان يعيشون على الزراعة والرعي، و18 في المئة على الصناعة.
ورغم أن مساحة هذا البلد الأفريقي تعادل أوروبا الغربية بأكملها (مليونا كيلومتر مربّع) فإن المساحة الزراعية لا تتجاوز 200 ألف كيلومتر مربّع، ويُستخدم فيها قدر هائل من المياه يصل إلى 20 مليار متر مكعب. ومن المتوقع أن تتضاعف المساحة الزراعية مرّات عديدة حتى عام 2025. الأمر الذي سيزيد من استهلاك الماء بمعادلة طردية.
ومع مضاعفة سكان المدن في السنوات الماضية من 27 في المئة في عام 1990 إلى 42 في المئة في عام 2006، ارتفعت الحاجة إلى مياه الشفة لتصل إلى 1.1 مليار متر مكعب سنوياً. وجرى تأمين مياه نظيفة لنحو 78 في المئة من سكان المدن، فيما تصل النسبة إلى 64 في المئة في الأرياف والصحاري.
ولا تزال البلاد تعاني نقصاً كبيراً في المرافق الصحية التي لا تتجاوز 50 في المئة في المدن، و24 في المئة في الأرياف، الأمر الذي يهدّد حياة المواطنين ويسبّب تفشّي أوبئة مثل الملاريا التي يتعرض 75 في المئة من السكان لها حسب تقدير منظمة الصحة العالمية.
والغريب أنّ الدراسة أغفلت كلياً مشروعاً مائياً ضخماً هو سد «مروي» الذي بُني على مدى 10 سنوات ويتمتع ببحيرة هائلة تمتد مسافة 174 كيلومتراً مربّعاً جنوباً. وقالت إن السودان يحتاج إلى سدود لزيادة مخزونه من مياه الري وإنتاج الكهرباء نظراً لأن التنمية تقتضي توافر طاقة رخيصة نظيفة مثل الطاقة الكهرومائية.
ومقارنةً بالتقرير عن تونس، لم يشر التقرير إلى أي جهد رسمي لتحسين أوضاع السكان، بما في ذلك مدّ شبكات التوتر العالي التي تنفّذها الصين، وخط السكك الحديدية والمطار الدولي الحديث ومشاريع الكهرباء الآيلة إلى تصدير الكهرباء إلى دول مجاورة بعد تعميمها داخلياً، والتي بدأ إنتاجها مع تشغيل سد «مروي».
كما لم تأت على ذكر الاستثمارات الزراعية العربية والأجنبية الهائلة التي تدفقت على السودان في السنوات الخمس الماضية التي صاحبت عملية بناء السد. فالاستثمارات السعودية وحدها بلغت 4.3 مليارات دولار. واحتل السودان المرتبة الثانية عربياً والثالثة أفريقياً من حيث جذب الاستثمارات الأجنبية لعام 2005، حسبما جاء في تقرير المؤسسة العربية لضمان الاستثمار ومنظمة «أنكتاد».

يشير التقرير إلى أنّ مسؤولي الحكومات الفاسدة في الدول الفقيرة يسرقون 50 مليار دولار سنوياً من عائدات المياه، وهذا الأمر يزيد من حدّة الحلقة الفارغة التي تسيطر على عمليّة تأمين الحاجات الأساسيّة لسكّان البلدان الفقيرة. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ حوالى 5 آلاف طفل يموتون يومياً من الإسهال الناجم عن تلوث المياه. وتزداد الصعوبة مع إدخال عامل زيادة السكّان. فالعالم، بحسب التقرير، يكافح لتأمين 64 مليار متر مكعب من المياه لتلبية زيادة 80 مليون نسمة سنوياً من السكان. وعلى صعيد الحلول يقول التقرير إنّ توفير المياه يجب أن يتركّز على القطاع الزراعي الذي يستهلك 70 في المئة من الثروة المائية