تعاون مصلحة البحوث العلميّة الزراعيّة والحدائق الملكيّة البريطانية

ليست الارض مجرّد تركة ورثناها عن أهلنا بل امانة اودعنا اياها ابناؤنا". تختزن هذه المقولة جوهر ما يقوم به فرع تحسين النباتات في مصلحة البحوث العلمية الزراعية في تل عمارة عبر جمع الاصول الوراثية للنباتات البرية المزهرة في لبنان وحفظها في بنك جيني بالتعاون مع الحدائق الملكية البريطانية KEW التي تعتبر واحدة من اهم المؤسسات العالمية في مجال علم النبات.
التعاون الذي بدأ بين الطرفين عام 1996 بجمع بذار النباتات البرية المزهرة وخزنها وتوثيق المجموعات المشعبية، اتخذ بعدا عالميا عام 2000 مع توقيع مصلحة البحوث اللبنانية والمؤسسة البريطانية اتفاقاً انضم لبنان بموجبه الى مشروع Millenium seed bank وهو عبارة من مساهمة عالمية تضم 50 دولة ونحو 125 منظمة ترمي الى جمع بذار 10 في المئة من اجناس النبات في العالم اي ما مجموعه 24200 صنف من فلورا العالم بحلول سنة 2010 وحفظها في اقبية مبردة لمئات السنين بما يوفر فرصاً غير محدودة لاستخداماتها.

ما هي أهمية الحفاظ على بذار النباتات؟

"انها بوليصة تأمين ضد اضمحلال النباتات البرية" يقول منسق المشروع ميكايل فان سلاغيرين، الذي تزامنت انطلاقته في لبنان منذ عام 1996. ويضيف فريق عمل المصلحة ان "كل نبتة تأتي من بذرة وبالتالي فانه بالمحافظة على البذار يمكن الحفاظ على النباتات او انقاذها من الانقراض". فيما يشرح الموقع الالكتروني للحدائق الملكية البريطانية، ان الحياة على الارض تعتمد على النباتات التي هي مصدر اساسي لغذاء الانسان بشكل مباشر او بشكل غير مباشر، عبر توفيرها الغذاء للحيوانات والمأوى لها، ويمكن تصور سلسلة غذائية من دون حيوانات ولكنها غير موجودة من دون النباتات. اضف الى ان الغطاء النباتي يمنع انجراف التربة وتصحّرها ويوفر الاوكسجين، ناهيك بالمنافع العلاجية والطبية للنباتات التي تشكل ايضا مواد اولية مهمة تستخدم في بعض الصناعات.
لا تعيش النبتة وحدها بل ضمن نظام بيئي، فالطبيعة مرتبطة ببعضها البعض، وكل عنصر فيها له دوره. لذا فإن فقدان احد عناصرها يحدث خللا، وهو ينتج من تراجع التنوع البيولوجي في البيئة. وفي عالمنا اليوم، تشهد البيئة تدهورا متسارعا لحساب التوسع العمراني وتزايد عدد سكان الارض وبالتالي طلبهم للغذاء وللمياه، الى الاستغلال الجائر للاراضي الزراعية والاستخدام المفرط والعشوائي للاسمدة الكيميائية والادوية والتلوث الناتج من النشاط البشري، وقطع الاشجار والاحراج والرعي الجائر.

استخدام البذار

قد لا يكون للبذار المخزنة افادة حالياً، لكن يمكن ان تكون افادتها في المستقبل، إن لاغراض الغذاء او الطب او لمنافع اقتصادية يقع على عاتق الباحثين اكتشافها. ولكن ايضا لتجديد البيئة، فكل نبتة مزروعة اصلها بري والنباتات البرية مقاومة للآفات وبالتالي يمكن تلقيحها وتهجينها.
يقول اندرو جاكسون، رئيس Wakerhust place الذي يضم بنك البذار للحدائق الملكية: "لا احد يعرف، قد يأتي الحل لتحد طبي جديد من نبتة في لبنان او من منطقة اخرى من العالم". وكان جاكسون قرر أنه لن يكرس حياته ليخبر الناس اخبارا سيئة بل ان يوظفها للامل، "أعتقد ان بنك البذار هو جزء من هذا الامل لانه يمكِّننا من ان نعيد استخدامها. ثمة الكثير من القصص عن قطع الغابات المطرية واتساع المساحات الصحراوية ولكن اذا توافر الطموح والرغبة والارادة يمكننا ان نوقف هذا التدهور".

خصائص "فلورا" لبنان

يتمتع لبنان، بفضل موقعه الجغرافي وتعدّد مناخاته وتنوّع تضاريسه ووفرة ينابيعه وانهاره على صغر مساحته التي توازي مساحة مقاطعة ويلز البريطانية، بمجموعة انواع نباتية برية غنية ومتنوعة، بحيث تبلغ فلورا لبنان ضعفي فلورا المملكة المتحدة.
فقد احصي 2984 نوعا بريا موزعة على 134 فصيلة او عائلة و1082 جنساً، فضلا عن تفرده بكونه موئلا لـ 119 نوعا خاصا به endemic.
اهتم علماء النبات بمنطقة الشرق الاوسط واستحوذ لبنان على حصة كبيرة من اهتمامهم. ان اقدم مجموعة معشبية جمعها الباحث الالماني راوولف ليونارد خلال جولته في الشرق الاوسط ما بين عامي 1573 و 1575، ولا تزال محفوظة حتى ايامنا وتحوي العديد من النباتات الي جمعت من لبنان.
وندين في حفظ ذاكرة لبنان النباتية ايضا للاب اليسوعي بول موتيرد من خلال مؤلفه من ثلاثة اجزاء Nouvelle flore du Liban et de la Syrie الذي تميز بالوصف الدقيق للنباتات واماكنها ومراحل نموها وتصنيفها وبدأ عمله عام 1935 وجاب كل ارجاء لبنان.
وكذلك استاذ الطب في الجامعة الاميركية في بيروت جورج ادوارد بوست الذي شغف بطبيعة لبنان واهتم بنباتاته جامعا ومصنفا اياها حيث اصدر كتابه Flora of Syria Palestine and Sinai،
الى الباحثة Winnie.S. Edgecombe عبر مؤلفها "Weeds of Lebanon" وغيرهم من علماء النبات الاجانب. اما المساهمة المحلية الاحدث فقد حصلت عبر الباحثين اللبنانيين جورج وهنرييت طعمة Illustrated Flora of Lebanon وله يعود الفضل في الارقام المتداولة حاليا عن حجم فلورا لبنان.

العمل الميداني

يقوم فريق عمل مصلحة البحوث المؤلف من المهندسة جويل بريدي وسيمون خيرالله برحلات ميدانية في الطبيعة قادتهم الى مختلف انحاء لبنان بحثاً عن نباتات برية، رافقهما ميكايل فان سلاغيرين فيها خلال زياراته لثلاثة اسابيع سنويا الى لبنان. وفيما كانا قبل عام 2000 يجمعان كل ما يجدانه، فانه بعد انضمام المصلحة الى مشروع MSB، فان عملهما اصبح اكثر انتقائية بعدما ركّزا جهودهما للبحث عن اصناف معينة غير متوافرة بعد لدى الحدائق الملكية. وهما يضعان في مطلع كل سنة خطة عمل لرحلاتهما التي يقومان بها من نيسان حتى تشرين الأول، الا ان هذه الرحلات على خلاف ما قد يبدو، ليست نزهة في الطبيعة، لأن العثور على النبتة البرية المزهرة المنشودة قد يحتاج الى اشهر وسنوات. وحتى عندما يعثران عليها فانهما قد يضطران للعودة الى الموقع الذي عثرا فيه عليها اكثر من مرة اكثر لاجل الحصول على المعشبية وجمع بذارها التي لا يجب ان تقل عن 800 بذرة والتي تسبقهما اليها احيانا الحشرات والماشية.
فزهرة الـ IRIS SOFRANA التي عثر عليها في لبنان للمرة الاولى في صوفر كانت موجودة بكثرة على شكل مرج، الاّ ان قطفها عشوائيا ورعي الماشية جعلها مهددة بالانقراض، وقد استغرقا سنوات من البحث الى ان عثرا عليها اخيراً في الارز. وفيما احصى الاب بول موتيرد 300 نبتة في منطقة مستنقعات عميقة، اضمحل معظمها في ما بعد بسبب جفاف المساحات المائية والفلاحة والزراعة والمرعى.

حصيلة النتائج

ليس العمل في المختبر اقل سهولة لفريق المصلحة العلمية من مهمات البحث عن النباتات في الخارج. فبعد جمع البذار في البرية يقوم في المختبر، الذي جهزته الحدائق الملكية البريطانية، بتنظيفها وفرزها مناصفة، فيحفظ جزء في ثلاجات المصلحة ويرسل الجزء الآخر الى الحدائق الملكية التي لا تملك التصرف بحصتها من دون اذن لبنان. كما يقوم بحفظ معشبيتها، اي النبتة المزهرة بعد تجفيفها، وتصنيفها وفق العائلة، والجنس والنوع والاسم العلمي والاسم المتداول، والمعلومات المتعلقة بالاسم العلمي للنبتة واسمها المتداول، وخصائصها المورفولوجية، واماكن وجودها واستعمالاتها وذلك ضمن برنامج معلوماتي خاص.
لقد نجح فريق عمل المصلحة في جمع 32 في المئة من "فلورا" لبنان من اراضي الساحل وحتى ارتفاع 2500 متر، اي ما يعادل 800 نوع، 457 منها هي مساهمة فريدة للبنان، الامر الذي يعتبره ميكايل فان سلاغيرين " انجازا كبيرا لبلد صغير بمشروع صغير جدا يقتصر على سيمون خيرالله وجويل بريدي". مضيفا: "لو اننا تجاهلنا المعايير المحددة من المشروع، لكنّا جمعنا 40 الى 45 في المئة". وهذا الانجاز يتجلى اكثر في عزم مصلحة البحوث على تأسيس اول بنك جيني للنباتات البرية تابع لمؤسسة رسمية، بمساعيها وقدراتها الخاصة والجهود البشرية التي تبذلها لهذا الهدف، قياساً بتواضع التجهيزات التي تملكها لحفظ البذار، تضاف اليها معوقات خارجة عن ارادتها كانقطاع التيار الكهربائي".
وأضاف: "إن المصلحة ، من خلال جمعها وحفظها للأصول الوراثية لنباتات لبنان البرية، تحافظ على الثروة النباتية وإرثها البيئي، تحفظ في ثلاجاتها ذاكرة الطبيعة في لبنان وتساهم ايضا في الجهد العالمي للحفاظ على مستقبل الانسانية، واستمرارها في هذا الجهد وتطويره يعتمد على طموح لبنان، شعبا وحكومة.
http://www.baldati.com/photos/album.php?id=1192 

زحلة – من دانييل خياط

Reference: Annahar.com