سوق الحميدية شاهد على تاريخ دمشق منذ 230 سنة

انتشار ظاهرة «العزِّيمة» تزعج الزوار.. وخطط لتأهيل الشرطة السياحية
سوق الحميدية شاهد على تاريخ دمشق منذ 230 سنة
 

2010-02-17
دمشق - عمر عبداللطيف  
سياح، متسولون، باعة، ضجيج وازدحام يمتد لأكثر من 600 متر هي طول سوق الحميدية الذي يخترق دمشق القديمة من باب النصر حتى باب البريد.
عندما تلج سوق الحميدية ستضطر لأن تسير ببطء، رغم أن عرض السوق يبلغ 15 مترا، لكنها تبدو غير كافية لهذا العدد الهائل من الزوار، كما أن الزائر سيتوه في زحمة المحال التجارية التي تجاوز عددها الـ 200 متجر، تتوزع يمينا ويسارا بارتفاع طابقين، فيها كل ما يحتاجه المرء من ملبوسات وحلي وعطورات وسجاد وتحف دمشقية.
يمتد السوق من شارع النصر في منطقة الدرويشية حيث تجاوره قلعة دمشق من جهة اليسار، إلى سوق المسكية لينتهي السوق عند أعمدة معبد جوبيتير، وهو معبد وثني بني أيام الإغريق، ومنه تطل مباشرة على الباب الرئيسي للجامع الأموي الكبير.
في سوق الحميدية لن تشعر بالبرد ولا حتى بالحر صيفا، فهو مسقوف بالحديد والتوتياء المقوسة، تتخللها ثقوب سوداء، تسللت منها أشعة الشمس لتنعكس على حجر البازلت الأسود الذي يكسو أرضية السوق.
هذه الثقوب خلفتها طلقات الرصاص، التي كانت تطلق أثناء العراضة الشامية في الأعراس، وليس كما يعتقد البعض بأن السقف تم ثقبه ليدخل الضوء إلى السوق، حسب ما يؤكده أصحاب المحال التجارية.
ويعود الفضل في بناء هذا السقف إلى والي دمشق ناظم باشا، الذي استبدل سقفه الخشبي بالحديد والتوتياء بين أعوام 1895 و1907، لمنع حدوث الحرائق.

سوق الأروام
بني السوق في عام 1780، وكان يعرف باسم سوق الأروام ثم السوق الجديدة، ثم سمي فيما بعد بالحميدية نسبة إلى السلطانين عبدالحميد الأول وعبدالحميد الثاني، لأن السوق بني على مرحلتين في عهديهما، كما جاء في بحث الدكتور الراحل قتيبة الشهابي.
يتفرع عن سوق الحميدية عدة أسواق أقل حجما منه، مثل سوق المسكية عند نهايته في الجهة الشرقية، وسوق العصرونية ومدخل سوق الحريقة، سوق الخياطين، سوق البزورية، وسوق تفضلي أو سوق العرائس، وجميعها تكتظ بالزوار كسوق الحميدية تماما.
في أحد متاجر سوق الحميدية تدخل سيدة مع ابنتيها لتتفحص الأقمشة، فيما يبدو أنها تستعد لزفاف إحداهما، تختلف مع صاحب المتجر على السعر، تجادله، تهم بالخروج، لكنها سرعان ما تعود بعد أن وافق البائع على مراعاتها بالسعر.
إنه متجر محمد زهير السمان، الذي يبيع الأقمشة المنوعة كالحرير والبوبلين والقطن منذ 63 عاما.

الله يرحم أيام زمان
يتذكر محمد (83 عاما) عندما اشتغل للمرة الأولى في سوق الحميدية قائلا في حديثه لـ "العرب": حصلت على البكالوريا وأردت أن أكمل تعليمي، كان ذلك في عام 1948، لكن والدي أجبرني على ترك الدراسة والعمل في المحل، وعندما رفضت العمل في بادئ الأمر قال لي والدي: حدا بصحلو يشتغل بسوق الحميدية وبقول لأ".
يتحسر محمد الآن على زبائن "أيام زمان"، موضحا أن الزبائن قديما كانوا من "الأكابر" أي من كبار العائلات الدمشقية مثل آل العظم والحسيب والقوتلي، أما زبائن اليوم فهم "أشكال وألوان".
ويوضح السمان أن الملبوسات الجاهزة أثرت على بيع الأقمشة، مشيرا إلى أنه فكر مرارا بتغيير مهنته لصالح بيع الألبسة الجاهزة، لكنه تراجع عن الفكرة مفضلا العمل في مهنته.

بوظة بكداش
خلال مرورك بسوق الحميدية يلفت انتباهك ازدحام شديد على باب أحد المتاجر، إنه محل بوظة بكداش الذي طالت شهرته الآفاق، هنا ما عليك سوى أن تعرج لتتذوق البوظة العربية، خاصة عندما تعلم أن زبائن هذا المحل ليسوا من الناس العاديين فقط، بل زاره ملوك ورؤساء كثر، كملك الأردن عبدالله الثاني والراحل رفيق الحريري وملك المغرب والرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، وزاره أيضا محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، كما يؤكد وسام بكداش أحد أبناء ملاك المحل.
ويوضح بكداش لـ "العرب" أن عائلته تمتهن هذه الصنعة منذ عام 1891، مضيفا: "لم يتغير شيء في المحل، لا الخشب أو المرايا، حتى الطاولات بقي قسم منها كما هو لم يتغير، التبريد فقط أصبح على الكهرباء، بقينا محافظين على التراث القديم بكل شيء".
ويشتهر محل بكداش الذي يفتح من الثامنة صباحا حتى الثانية بعد منتصف الليل، بصناعة البوظة العربية بالقشطة والفستق، والمهلبية أو المحلاية على الطريقة اليدوية وهي تؤكل صيفا وشتاء، كذلك السحلب الساخن المصنوع من الحليب الطازج مع الكعك والقرفة والكاتو، كما يقول بكداش، الذي يؤكد أن "المحلاية الدمشقية القديمة لا مثيل لها لا في سوريا ولا في غيرها من الدول".

100 عام موازييك
في الجهة الأخرى للسوق تخرج سائحة أوروبية من أحد المحال، وقد بدت سعيدة ببعض التحف الشرقية التي اشترتها من صاحب المحل عبد الرزاق شويكي، الذي يبيع الموازييك منذ عام 1948.
يصنع شويكي التحف الشرقية كطاولات الزهر وموازييك الخط العربي، الزجاج القديم، شالات البروكار، الخناجر، السيوف، الفضيات، الثريات، والإكسسوارات. أما زبائنه فيختلفون من شهر لآخر، إذ يأتيه في الشهر الأول السياح الطليان والإسبان، أما في شهر فبراير فهم من الألمان والإنجليز، وفي شهر مارس والصيف يكثر السياح الخليجيون والعرب، حسب قوله.
وعن مدى مناسبة أسعار بضاعته للسياح، يشير شويكي إلى أن بعضها مناسب، والبعض الآخر غالي الثمن، موضحا أن بضاعته نوعان: "الأول يصدر إلى الخارج ويعتبر صناعيا من الدرجة الثالثة، بينما البضائع المصنوعة يدويا لا تصدر لارتفاع كلفتها وسعرها مثل الموازييك والبروكار الشامي".

شحاذون وسماسرة
ورغم أن سوق الحميدية يستقطب آلاف الزوار والسياح يوميا، إلا أن أصحاب المحال التجارية وكذلك السياح يشكون من مضايقات عدة، بدءا من الشحاذين والسماسرة أو ما يسمى باللهجة السورية بـ "العزيمة"، وهم عمال المتاجر الذين يقفون في منتصف الشارع داعين كل من يمر بسوق الحميدية إلى المحلات لشراء البضاعة، وهم يقولون على سبيل المثال "تفضلي يا أخي..تفضلي يا أختي"..
هذه الظواهر يصفها عبدالرزاق شويكي بأنها "غير حضارية تضرب السياحة في سوريا"، لذلك "لابد من بترها"، حسب قوله.
ويشير شويكي إلى أن غلاء أسعار الفنادق في سوريا، أثر على حركة السياحة في سوريا، وبالتالي على حركة البيع والشراء في محله، متسائلا: "كيف سيدخل السائح إلى سوريا ولا يوجد منافسة بين الفنادق".
منغصات
أما وسام بكداش فلا يروقه منظر البسطات وسط السوق، والأهم حسب قوله "منظر الشحاذين والأطفال الذي قد يتحولون إلى نشالين مع الوقت". ويرى بكداش أن "العزيمة ومنظر النراجيل في الشارع يؤذي السائح، الذي يشتكي لنا، هذا عدا عن النفايات المنتشرة وسط السوق".
ويعلق محمد الحمودي الذي يأتي أسبوعيا لزيارة السوق والتبضع مع عائلته على شرطة السياحة التي تجوب شارع الحميدية قائلا: "إنهم لا يعرفون التحدث بالإنجليزية، يتوجب على شرطي السياحة أن يتقن لغتين على الأقل لكي يعرف أن يجيب السائح، بدلا من أن يستعين بأصحاب المحلات للترجمة، كما أن على الشرطي أن يكون أنيقا".
ويحمل الحمودي وزارة السياحة مسؤولية هذا التقصير، معتبرا أنه يجب عليها الاهتمام أكثر بالسوق وبالسائح الأجنبي.
رمزية أوضه باشي مديرة الخدمات السياحية بوزارة السياحة تعترف بوجود هذه الظواهر، موضحة أنهم الآن بصدد تطبيق برنامج عام الجودة السياحية الذي أطلقت الوزارة بداية العام الحالي.

تأهيل الشرطة السياحية
وتؤكد أوضه باشي في حديثها لـ "العرب" أن الشرطة السياحية تعمل مع وزارة الشؤون الاجتماعية على الحد من ظاهرة عمالة الأطفال، وظاهرة السماسرة من خلال التنسيق مع محافظة دمشق للقضاء على هذه الظواهر، ورفع جودة المحيط السياحي، "كما قمنا برفع تقارير مصورة للجهات المختصة عن موضوع البسطات لمعالجته".
وكشفت أوضه باشي أن وزارة السياحة وقعت عقدا مع شركة بريطانية بالتعاون مع الجمعية البريطانية السورية لإعادة تأهيل وتدريب عناصر الشرطة السياحية وتعليمهم اللغة الإنجليزية، إضافة إلى تدريب عناصر نسائية.
ويتفق فيصل نجاتي مدير سياحة دمشق مع أوضه باشي، إذ يؤكد أن التعاون مستمر بين وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ومديريته لرفع كفاءة الشرطة السياحية وبالتالي منع أي إزعاج للسياح.
وتحدث نجاتي عن تشكيل ورشة عمل لإزالة المظاهر السيئة التي تشوه الأسطح في دمشق القديمة مثل خزانات المياه والصحون اللاقطة، ومناقشة الحلول السريعة وبعيدة المدى بالتعاون مع وزارة الآثار ووزارة الأوقاف.
ويرى نجاتي أن قرارا جديدا سيصدر لمنع دخول السيارات إلى دمشق القديمة حفاظا على البيئة والآثار، مضيفا: "توجد حاليا خطط لتأهيل دمشق القديمة من خلال تجميل الواجهات السياحية وصيانة البنى التحتية، وهذا يشمل سوق الحميدية".

 

جميع حقوق النشر محفوظة جريدة العرب 2009