آسيا جبّار: امرأة وعربيّة... في الأكاديميّة الفرنسيّة!
في الثانية والسبعين ما زالت آسيا جبار تقفز برشاقة بين المشاريع والمدن: من جامعة نيويورك، حيث تدرّس الأدب الفرنسي منذ 2001، إلى باريس، حيث تداوم بانتظام في الأكاديمية الفرنسية التي انتُخبت عضواً فيها عام 2005، لتكون أول كاتبة عربية وخامس امرأة تدخل هذه المؤسسة الثقافية المرموقة... مروراً بالجزائر، بلدها الأصلي الذي أعادت ربط الأواصر معه ــــ بعد طول اغتراب ــــ منتصف التسعينيات، في عزّ الأتون الإرهابي. كتبت حينذاك روايتيها «ما أوسع السجن» و«بياض الجزائر»، لتعود إلى أحضان الحركة النسائية التي خرجت من رحمها في الستينيات، لتصبح أحد أبرز رموزها. من تلك التجربة استوحت عملها السينمائي «نوبة نساء جبل الشنوى» الذي نالت عنه جائزة النقاد في مهرجان البندقيّة/ فينيسيا السينمائي عام 1979.
تضحك آسيا جبار، حين نقول إنّ من يقرأ سيرتها يخالها تخصّ بطلاً رياضياً، لكونها حافلة بالأرقام القياسية. وتقول: «لم يكن يوماً دافعي التفوق أو تحقيق منجزات غير مسبوقة. إنني مثل غالبية النساء الكاتبات، دخلتُ الكتابة بدافع الحاجة الماسة والمستعجلة لمقاومة التخلف والرجعية والرؤى الذكورية المهيمنة».
الشهرة، عرفتها آسيا جبّار ـــ واسمها الحقيقي فاطمة الزهراء إيمالاين ــــ دفعةً واحدةً. فور صدور عملها الأول «العطش» (1957)، لقبتها الأوساط الأدبية الباريسية بـ«فرانسواز ساغان الجزائرية». الكاتبة الشابة التي كانت، قبل ذلك بعامين، أول عربية تدخل الـ Ecole Normale، «دار المعلّمين العليا» المرموقة في باريس، لم تكن تتوقع كل تلك الحفاوة النقدية. تروي أنّها حين كتبت «العطش» وهي في العشرين، كانت مرتبطة عاطفياً بالروائي مالك علولة (شقيق المسرحي الشهيد عبد القادر علولة)، الذي سيصبح رفيق دربها. كتبت لاحقاً بالاشتراك معه مسرحيتهما الشهيرة «احمرار الفجر» (1969)، ثم تزوجته مرتين تخللتهما فترة طلاق تزوجت خلالها بكاتب جزائري آخر هو وليد قرن.
تتذكّر آسيا تلك الفترة: «كنتُ في عامي الدراسي الثاني في دار المعلمين. وتراهنت مع حبيبي آنذاك، على أنني قادرة على كتابة نص روائي في أقل من ثلاثين يوماً. وكسبت الرهان بالفعل، وساعدني على ذلك النداء الذي وجهته «جبهة التحرير» إلى الطلبة الجزائريين للإضراب عن الدراسة (ك1/ ديسمبر 1956)، ما سهّل عليّ التفرّغ لكتابة روايتي بالفعل في أقل من شهر».
أصدرت آسيا جبار تلك الرواية الأولى باسم مستعار، لأنّ القانون الداخلي لدار المعلمين كان يمنع نشر أعمال أدبية خلال فترة الدراسة. لكنّ الأمر سرعان ما انكشف، بفعل الحفاوة النقدية التي حظيت بها، ما وضع إدارة المعهد في حرج، فقرّرت فصلها من الدراسة. لكن الفيلسوف موريس كلافيل الذي كان أحد كوادر دار المعلمين، اعترض على قرار الفصل، وأرسل خطاباً رسمياً إلى الجنرال ديغول ملتمساً التدخل لإعادة «ساغان الجزائرية» إلى دار المعلمين. وبالفعل، تدخّل ديغول شخصيّاً وأمر بعودة آسيا إلى مقاعد الدراسة.
توالت بعد ذلك أعمالها من «نفاد الصبر» (1958) إلى «النوارس الساذجة» (1967)، مروراً بروايتها الأشهر «أطفال العالم الجديد» (1962) التي كرّستها ضمن أبرز رموز جيل الرواد من كُتّاب الرواية في المغرب العربي. ثم بدأت القضية النسائية، تحل تدريجاً محلّ النفَس الوطني في أعمالها. إذ رافعت عن أوضاع النساء في بلادها، وفي العالم العربي عموماً، في أعمال عدة تنوعت بين السينما: «نوبة نساء جبل الشنوى» (1979) و«الزردة أو الأغاني المنسية» (1982)، والأبحاث السوسيولوجية: «نساء الجزائر في بيوتهن» (1980)... إلى جانب الرواية طبعاً: إذ خصّصت للقضية النسائية ثلاثيتها الشهيرة: «الحب والفانتازيا» (1985)، «ظل السلطانة» (1987) و«بعيداً عن المدينة المنوّرة» (1991). واحتفظت المرأة بمكانة مركزية في أعمالها لاحقاً، بما فيها ثلاثيتها الجزائرية الجديدة: «ما أوسع السجن» (1995)، «بياض الجزائر» (1996) و«نساء بلا كفن» (2002).
لم تكن مصادفةً أن تحتل معاناة النساء المكانة المركزية في أعمال جبّار: «اكتشفت فجأة، وأنا في السبعين، أنّ النقطة المفصلية التي كوّنت منطلقي ودافعي في كل ما كتبتُ، هي واقعة نسيتها أو تناسيتها طوال ربع قرن. وتتعلق بمحاولة انتحار أقدمتُ عليها، وأنا في السابعة عشرة، إثر جملة جارحة ومهينة وجّهها إليّ حبيبي آنذاك. وكنت قد نشأت في بيئة بورجوازية، فرنكوفونية الثقافة، ولم أتعوّد أن أسمع في محيطي العائلي مثل ذلك الخطاب الذكوري الجارح. لذا تأثرت كثيراً إلى حد محاولة الانتحار. وأعتقد أن تلك الجملة جعلت مني على الفور، وإلى الأبد، مناضلة نسائية قبل أن أكون كاتبة أو أي شيء آخر».
الغريب في الأمر أنّ تلك الواقعة بقيت كامنة في اللاوعي، حيث نسيتها طوال نصف قرن. إلى أن عادت إلى الواجهة فجأة، ومن دون سابق إنذار، ذات صباح خريفي، بينما كانت تتناول إفطارها في بيتها النيويوركي: «سمعتُ في الإذاعة ملخصاً لتقرير نشرته «نيويورك تايمز» عن مراهقة فلسطينية نفّذت عملية انتحارية. وتأثرت كثيراً بقصتها، فذهبت فوراً إلى أقرب كشك، واشتريتُ الجريدة لأقرأ تفاصيل القصة. لكن ما كاد نظري يقع على الصفحة الأولى التي تصدّرتها صورة تلك الاستشهادية الفلسطينية، حتى بدأ جسدي كلّه يرتجف. لقد اكتشفت أنها تشبهني تماماً حين كنتُ في مثل سنها. وعادت على الفور إلى ذاكرتي تفاصيل محاولة الانتحار التي أقدمتُ عليها قبل خمسين عاماً. لم يكن هنالك أي سبب منطقي للمقارنة بين قصة تلك الفتاة الفلسطينية وقصتي. لكن صورتها المنشورة أعادت إلى ذاكرتي قصة محاولة انتحاري التي نسيتها طوال نصف قرن».
وتضيف: «عدتُ على جناح السرعة إلى شقتي، وشرعتُ من دون سابق تخطيط في كتابة نص بيوغرافي عن تلك الحادثة تفرغت له طوال أسبوعين، كنتُ خلالهما أكتب وأنتحب بلا توقف. وحين أكملتُ هذا النص («لم أسمع ذلك أبداً في بيت والدي» ــــ منشورات «فايار»، باريس ــــ 2007)، شعرت براحة غريبة. من خلاله، فهمتُ أشياء كثيرة كانت في داخلي، ولم أكن أعيها قبلاً. تلك الأشياء هي التي صنعتني امرأةً وحددت قدري ككاتبة».
جريدة الأخبار