السيارات في لبنان... الجزء الأول

اللبناني سيارته

غالبية اللبنانيين لا يتقيّدون بقانون يلزم عدم التحدث على الهاتف المحمول أثناء القيادة. فالسيّارة، في مفهومهم، غرفة اتصالات لدواعي العمل، أو للتعويض عن زيارات اجتماعية مؤجّلة. ومنهم من استثمر في تحسين وتطوير النظام السمعي في السيّارة، فأصبحت تضاهي نوادي السهر في ضوضائها. الموسيقى تطلب للفت انتباه جميلة مجاورة، أو للتبشير بكلمات قائدٍ أو زعيم. وفي زمن الحرب، استخدمت السيّارة، بعد تفخيخها، بريد رسائل سياسية لترهيب طرف يكثر الكلام المنمّق على الحرية والديمقراطية والاستقلال.

اللبناني سيّارته. وهي مرآة أخلاق المجتمع. رمي المهملات (بوقاحة) من الشبّاك، التحدّث  بالهاتف، التمايل على إيقاع الأغاني الصاخبة، التحايل على إشارات السير واستغفال شرطيه، المزاحمة وتخطّي السيّارات، الصور الدينية والمذهبية المبتسمة على الزجاج الخلفي... كلّها معايير مستوى السائقين الأخلاقي الذين يتكوّن منهم مجتمع مرهون بمدى تخلّفهم أو تطوّرهم على حد سواء.

تجارة الغواية

في لبنان يسهل شراء سيّارة في أيّ لحظة. فالبلد تحوّل معرض سيّارات كبيراً. والمواطن متسوّق محتمل. وليس أيسر من مراقبة السيّارات المتناثرة، وسؤال سائقها إذا كانت سيّارته للبيع. وهي إحدى الحيل التي يلجأ إليها الشبان للتحرّش بفتاة... قد يثمر علاقة، أو نكتة طريفة يعمد فيها أحدهم بسؤال مقتضب: "للبيع؟"، فتجيبه الفتاة بنعم أو لا. ومهما كان الجواب يسارع بسؤال آخر: "والسيّارة؟". ثم ينطلق بعدها على عجل تاركاً خلفه رائحة الدواليب وابتسامة مقتضبة. وبعضهم يلصق إعلاناً للبيع بأحرف كبيرة على الزجاج الخلفي، دعاية متنقّلة في أسواق متغيّرة بحسب وجهة السائق. وركن السيّارة عند تقاطع الطرق، وبالقرب من إشارات السير الجديدة، سياسة استراتيجية لاستقطاب الأنظار. وهناك الطريقة اللبنانية التقليدية، فيبادر السائل بسؤال مفاجئ يقحمه بين أطراف الحديث: "في شي سيّارة حواليك للبيع، يكون ميّت صاحبا؟".

غالبية أساليب البيع هذه هي طرق فرديّة توحي بها الصدفة، والوقت المتاح في خضمّ العمل اليومي. والشطر الأوسع من المبيعات تتداوله الشركات المعتمدة لصانعي السيّارات الجديدة في بلدان المنشأ، والمعارض التي يديرها المستوردون من الخارج. وهذه فشت في الأراضي اللبنانية كافة. مهنة سهلة في متناول من يملك رأس مال صغيراً يستثمره في تجارة لا تحتاج إلى دراية واسعة حاجتها الى "كاريزما" أو قوة إقناع في التخاطب. ومثل كل المهن في لبنان، يكفي أن ينجح بعضهم في حقل تجاري ما حتى يعمد الآخرون إلى تقليده. ولبنان بلد حرّ تجارياً إلى حد الفوضى.

منذ الثمانينات تحوّلت محال كثيرة إلى بيع وتأجير أفلام الفيديو. وتلتها موضة الأشرطة الغنائية، ثم الهواتف المحمولة، ومحلات بيع الكمبيوترات الشخصية. وتتغيّر مهنة التاجر بيسر من خلال تغيير بسيط في الديكور. وبعد بضعة أشهر يتحوّل البائع خبيراً في مصلحته، ويشكو أمام الناس وقاحة جاره الذي سرق مهنته وبات ينافسه على بعد عدة أمتار من محلّه.

أما معارض السيّارات فقد انتشرت كالطفيليّات على جوانب الطرقات السريعة في العقد الأخير من القرن المنصرم. وبعد الهجوم الأميركي على العراق وارتفاع صرف سعر اليورو أمام الدولار، أصبح استيراد السيّارات الأوروبية من أميركا، أقلّ كلفة من شرائها في بلدان منشئها. والانتشار اللبناني في الولايات المتحدة الأميركية ساهم في تقريب المسافات وتخفيض كلفة الإقامة. معظم اللبنانيين تربطهم علاقات قربى أو صداقة بمواطنين أميركيين من أصل لبناني، إلى إلمامهم الطفيف ببعض التعابير باللغة الإنكليزية، فلا يعصاهم التحادث في حده الأدنى.

مصدر السيارات

رحلة الشراء من أميركا أسهل من الوصول إلى منطقة الدورة في الأيام الماطرة. فلا يتطلّب السفر أكثر من فيزا سياحة (إن لم تتوفر فيزا عمل)، وكشف حساب من البنك، وبعض أوراق قانونية سهلة المنال، وقرابة يوم من السفر تمرّ معظم ساعاته نوماً على مقعد وثير على متن طائرة. والشراء شرطه عميل خاضع لشروط معينة من الشركات المنظّمة للمعارض. من أكبر وأهمّ هذه الشركات(
AAA: American Auto Auction) أو "المزاد الأميركي للسيّارات". والعميل، ويطلق عليه لقب (Dealer)، يجب أن يكون أميركياً أو حاصلاً على الـ"غرين كارد"، وحاصلاً كذلك على إذن يخوّله المشاركة في المزاد. وثمة أكثر من مزاد في الولاية الواحدة، وتشرف عليه شركات كثيرة تتقاسم أيام الأسبوع. فيحدد، مسبقاً، يوم للشركة، ويدوم المزاد السنة كلها.

والمزاد أرض شاسعة تصطفّ فيها السيّارات، فتخالها حقلاً من الأزهار المتنوّعة لكثرة الألوان. والمساحة الصغيرة نسبياً لا يقل فيها عدد السيّارات المعروضة عن الألف، ويصل إلى الثلاثين ألفاً في الولايات الكبرى مثل بوسطن وكاليفورنيا. وترتيب السيّارات، ومرورها أمام الشارين، يشبهان إلى حدّ ما طريقة الإصطفاف في المعاينة الميكانيكية في منطقة الحدث. وكل خط يحمل حرفاً من أحرف الأبجدية، وتقسّم الخطوط وترتب حسب مصدرها. فخطّ للشركات المعروفة، وآخر لسيّارات الأفراد، والأخرى للسيارات المرهونة للبنوك والتي عجز أصحابها عن تسديد أقساطها.

المثال الأمريكي

تقتطع الشركات المنظّمة حصّة من البيع بين مئة وخمسين دولاراً ومئتي وخمسين عن كل عربة. والمزاد فرصة ذهبيّة لمن يريد أن يبيع أو أن يستبدل سيّارته. والعرض ليس محصوراً بالشركات الكبرى، بل يتعدّاه ليطاول الأفراد، وحتى العملاء، بسبب الثمن المتدني الذي يتقاضاه المنظّمون كرسم للعرض. 

مياه الشفة مجانية في فصل الصيف، والـ"هوت ـ دوغ" متوفّر لدى باعة العربات المشهورة في أميركا، وتعيّن الشركات المنظمّة هؤلاء الباعة منعاً للفوضى، واحتكاراً لكل فرص الربح.

ومعاينة السيّارات والتمعّن في هيكلها متيسّر منذ ساعات الصباح الأولى. ينصرف رواد المعرض إلى تسجيل أرقام السيّارات، ويتفرّسون بحذر في الوجوه حولهم. كلّ يتحضّر على طريقته قبل بدء موسم الصيد.  يُفتتح المزاد عند الساعة العاشرة صباحاً، ويضج المكان بالصياح والمزايدات إلى الساعة الثانية بعد الظهر. تعرض كل سيّارة على حدة أمام أنظار أكثر من خمسين شخصاً، فترتفع الأيدي، ويعلو الصراخ، وتتحول العربة فريسة يتناهشها الجمهور كالضباع الجائعة. ومن المفارقات المضحكة أن المنافسة رست بين لبنانيين ذات مرة، على سيارة واحدة. وطوال دقائق طويلة انهال الاثنان واحدهما على الآخر بالمزايدة، الى أن انسحب أحدهما وقد أدرك أن كلفة السيّارة قد تعدّت سعر المبيع في لبنان.

تمرّ السيّارات أمام أنظار الجمهور كعارضات الأزياء. كلّ سيّارة تحمل رقماً تسلسلياً، من واحد إلى ما لا نهاية. ويتجمّع الشارون على ضفّتي الخط الذي تمرّ عليه السيّارة، وغالباً ما يكون سائقها من السود، وتُوقف أخيراً على المنصّة ليبدأ المزاد. في إحدى الزوايا يقف الدلاّل، تعاونه إمرأتان ورجل يجلس إلى شاشة كمبيوتر ليسجّل مباشرة سعر المبيع ورقم الوكيل الذي رسا عليه البيع. تتدلّى فوق الدلاّل ومساعديه شاشة عملاقة تعرض معلومات عن السيّارة: النموذج، سنة الصنع، عدد الأميال، والأعطال الجسيمة فيها إذا وجدت. والدلاّل رجل حذق، سريع البديهة، يحفظ من شارك في المزاد منذ انطلاقه.

وفي تلك اللحظة التي يخيّم فيها الصمت وكأن المزايدة انتهت، يجول بأنظاره، يلتقط التردّد في عينيّ أحدهم ليحمّسه من جديد صارخاً، على سبيل المثال، "هل أسمع ثلاثة وأربعين؟" (أي أربعة الآف وثلاثمائة دولار). ومن دون أن يرفع ناظريه يردّد، بلهجة سريعة كأسطوانة عالقة، الرقم لأكثر من دقيقة، وكأنه يضرب بمطرقة على رأس الرجل المحتار الذي لا يلبث أن يعود الى الحلبة موافقاً، ويفتح المزاد على مصراعيه من جديد. هو الشخص ذاته الذي يلجأ، إذا لم تستهوِ السيّارة أياً من الموجودين، إلى خفض السعر في محاولة أخيرة لبيع. قيمة المزايدة خمسون دولاراً للسيّارات البخسة الثمن التي يقلّ سعرها عند افتتاح المزاد عن ثلاثة آلاف دولار، وتبلغ قيمتها مئة دولار للمصنفة أغلى من الرقم السابق. هناك عدد من السيّارات لا يباع، فيرجأ عرضه إلى الأسبوع الذي يليه، في تكرار قد يستمرّ أشهراً لتباع أخيراً بسعرٍ زهيد.

في بعض المرّات، إذا استطاع أحد التجّار التعرّف إلى صاحب السيّارة الأصلي، يختلي به جانباً ويتفق معه على البيع خارجاً. الدفع يكون نقداً أو بموجب شك مضمون فقط. أما إذا تمت عملية البيع ورفض العميل الدفع، يُلغى فوراً الإذن المعطى له ويحرم من المشاركة في كل المزادات التي تنظّمها الشركة المعتمد لديها. هناك شروط محدّدة لإعادة السيّارة وإلغاء صك البيع في حالتين فقط. إذا وجد فيها الشاري عطلاً فادحاً لم يُذكر على الشاشة وقت عرضها، أو إذا تأخر سند الملكية (
Title) في البريد لأكثر من شهر. بإمكان الشاري إستلام السيّارة فوراً بعد دفع ثمنها والعودة بها في اليوم نفسه إذا كان يملك لوحة تجريبية تخوّله قيادة السيّارة من دون تسجيلها. بعض الوكلاء النافذين يحمل أكثر من لوحة، وأهمية هذه الأخيرة تكمن في الاستغناء عن شاحنة القطر التي تكلّف مئة دولار بدلاً من كل عربة. 

تُشحن السيّارات كل أربع في حاوية (
Container) على متن باخرة في رحلة تستغرق ما يقارب الشهر للوصول إلى مرفأ بيروت. كلفة كل صهريج تتراوح بين ثلاث وأربع آلاف دولار.

بعض التجّار يعمد إلى شراء السيّارات المحطّمة التي تباع بأسعار زهيدة. وهي تجارياً بضاعة رابحة تفسح في المجال للمنافسة في الأسعار. أصحاب هذه السيّارات لا يقومون بإصلاحها إن بسبب إرتفاع كلفة اليد العاملة في أميركا، أو لإمكانية تحوّلها إلى خطر على حياة السائق بعد ذلك. في لبنان، بلد الـ"كل شيء ممكن"، حياة المواطن لا تهم البائع وهي من مسؤولية الشاري، هناك دوماً عمّال يتاقضون أجراً متدنّياً لإعادة ترميم هيكل السيّارة من دون الاهتمام بمستلزمات السلامة العامة.  

من أبهى ما توصلت إليه المكننة في الولايات الأميركية ما يسمى بالـ (
VIN: Vehicule Identification Number)  أو رقم تعريف العربة. كلّ سيّارة قادمة من الولايات المتحدة لا بدّ أن تحمل رمزاً من سبعة عشر رقماً، وإن لم يتواجد فذلك يعني ومن دون أدنى شك أن التاجر أزاله عن قصد لإخفاء سوء ما.

ويلصق الرقم في أسفل الزجاج الأمامي أو على طرف الكرسي بجانب السائق أو فوق الرفراف الأمامي. و"كارفاكس"! من المواقع الإلكترونية الكثيرة المتخصصة في هذه الخدمة، ومن أشهرها. وهو يجبي رسماً يراوح بين ثلاثين دولاراً لاستخدام واحد، وأربعين دولاراً لاشتراك دائم. ويكفي أن يضع المستخدم الرقم في الخانة ليعطيه الموقع تقريراً مفصّلاً، بعد البحث في قاعدته البيانية التي تشمل تاريخ أكثر من خمس مليارات سيّارة. والتقرير يشمل تاريخ وضع السيّارة في السير، وسجلّ مالكيها، والتغيير في ألوانها، والحوادث والأعطال التي طرأت عليها، ورقم عداد المسافات، والأميال التي قطعتها، وحتى وجهة استعمالها إن كانت شخصية، أو سيّارة أجرة، او للإيجار.    

وسائل شراء أخرى

ومن الوسائل الرائجة في الأسواق اللبنانية أخيراً، إرسال أحد الأقرباء سيّارة أو اثنتين إلى قريبه. فيزاول هذا التجارة ويعرض السيّارة على جيرانه، وهي غالباً ما تكون مركونة في مرآب البناية أو تحت الشرفة. والباعة هؤلاء ينافسون المعارض بسبب تدنّي كلفتهم، لا يدخل في حساباتهم إيجار الأرض، ولا مرتبات العمّال الى المصاريف الأخرى من كهرباء وضرائب...
   

            باسكال عسّاف ،www.nowlebanon.com، السبت 28 شباط 2009

Ref: http://www.nowlebanon.com/arabic/NewsArticleDetails.aspx?ID=82107&MID=100&PID=46