السيارات في لبنان... الجزء الثاني

بعد تغطية نفقات شركة الشحن يحصل التاجر على إذن بالاستلام يقدّمه، مرفقاً ببوليصة الشحن، إلى أحد موظفي المرفأ، فيخلّص البضاعة، ويدفع رسم الجمرك المتوجب عليها للدولة اللبنانية. الضريبة تستوفيها الدولة بالليرة اللبنانية فقط، وبحوالة مضمونة من مصرف لبنان. وتعمد الدولة إلى تغيير لائحة الرسوم الجمركية كل ستة أشهر، وذلك في شهري شباط وآب. وهذا التعديل يقتصر مفعوله على السيّارات باهظة الثمن، فيُحسم بضعة آلاف، بينما لا يتعدى الحسم مئة دولار على السيارات المصنفة في المجموعة الرخيصة.

والسعر الأدنى للسيّارة المقبول استيرادها إلى لبنان، لا يقلّ عن ألفين وخمسمائة دولار، والضريبة المضافة في حدّها الأدنى، خمسة آلاف دولار، يزاد عليها كلفة الشحن، وبعض التحسينات الطفيفة الضرورية. فمعظم السيّارات الوافدة يحتاج إلى تصليح ميكانيكي، أو حدادة، أو تنجيد. وكلفة النقل خمسة وعشرون دولاراً داخل بيروت، لاستحالة قيادة السيّارة على الطرقات اللبنانية قبل تسجيلها في "النافعة"، وإلا تعرض سائقها الى غرامة وحجز السيّارة. وتدفع مئة دولار عن كل سيّارة "برّاني"، للمكلّف بتخليص البضائع من المرفأ. فيصبح المجموع أخيراً أكثر من تسعة آلاف دولار أميركي. وبعد إضافة ربح التاجر يصبح سعر المبيع أربعة أضعاف سعر السيّارة الأصلي في الولايات الأميركية.

لتملّك معرض سيّارات في لبنان يحتاج التاجر إلى مساحة يُكدّس فيها العربات المستوردة من الخارج، أو المودعة لديه من أشخاص اشتروها، ويريدون استعمال اسمه التجاري لبيعها. الخبرة هامة ولكن غير ضرورية. الميزة الأولى هي فصاحة اللسان، وحب الكلام، والـ "رغي" كما يقال في العامية، أو الذرابة، ويحتاج التاجر الى رأسمال، وعامل غالباً ما يكون أجنبياً يقوم بغسل السيّارات والحراسة ليلاً، وراتبه أقرب إلى الحد الأدنى. وأما إذا غفل الشاري عن دفع الـ "خوّة"، يرسم التاجر ابتسامةً عريضة على وجهه، ويفرك يديه قائلاً بلهجة آمرة تُخجِل المستمع: "غسّل لك السيّارة فلان، ناوله عشرة دولارات إكرامية". ومثل كلّ تجارة، يلحظ القانون رخصةً لبيع السيّارات. وكما في كلّ تجارة، فإن عدم التصريح عن مزاولة العمل، أو تأجيل الاستحصال على رخصة إلى موعد لن يأتي، ليست من الأمور المعيقة للعمل، إذ إن السلطات المولجة تطبيق القوانين تغضّ النظر عنه.

البيع والمصارف

قد يسأل السائل: "ما الفرق بين الشراء من الشركات صاحبة الوكالات الحصرية، والشراء من المعارض؟". والجواب هو أن الشركات تكون، إما كورية زهيدة الثمن، وإما باهظة الثمن ومستوردة من بلدان أوروبية. الأولى لا تستهوي الشباب اللبناني المهتم بشكل كبير بالسيّارات الألمانية. والثانية تبقى حكراً على الطبقة الغنية، وعلى شركات تأجير السيّارات. ويصبّ في ترجيح كفة المعارض كون سيّارات نموذج السنة تفقد كثيراً من قيمتها بعد سنتين. والشركات تتأخّر في التسليم نحو ستة أسابيع، بينما المعارض، كالسوبرماركت، فوريّة التسليم. وفي كثير من الأحيان لا تتوافر كل الألوان، ناهيك عن الإعلانات الضخمة التي تستقطب أنظار السائقين، كل بضعة أمتار، بجمل مغرية مكتوبة بأحرف كبيرة، وفي أسفل اللوحة تطالعك ملاحظات "من دون القيمة المضافة". وإعلان آخر يبشّر بنبأ "سنة بنزين ببلاش" - وعند التدقيق في اللوحة، تقرأ جملة مطبوعة بأحرف صغيرة أشبه بسطر شارد، ان البنزين "ببلاش" لـ "12000 كلم"، وأمور أخرى تُكتشف فقط في صالات الشركات، ومنها أن ناقل الحركة، أو الزجاج في السيّارة، يدوي وليس أوتوماتيكياً، أو أن إضافات الأمان، مثل كيس الهواء (Air Bag )، كلها زوائد تضاف كلفتها الى السعر المعلن في الإعلانات.

الميكانيكي و التاجر

الميكانيكي، أو حِرفي تصليح السيّارات، هو العنصر الأصعب في عملية البيع. يلجأ اليه الشاري قبل أن يعطي موافقته الأخيرة على شراء سيّارة تفحصها ودقق فيها أكثر من مرة في الأيام المنصرمة. وهو يكون موضع ثقة الزبون وموضع خشية التاجر. من الميكانيكيين أصحاب ضمير وأخلاق مهنة، ويؤدون واجبهم على أكمل وجه. فالشاري قد يصبح زبوناً عنده، وأعطال سيّارته قد تتحول مصدر رزق له. لكن بعضهم يبيع ضميره لتجّار يشترون، إما خوفاً من قرار جائر، وإما إتماماً لصفقة لم تكن لتتم بسبب حالة السيّارة المعروضة.

يصل الشاري متسلّحاً بالميكانيكي. ولمزيد من الحيطة، يتعامل مع شخص من منطقة بعيدة عن المعرض منعاً لأثر المعرفة الشخصية السابقة. وحين ينهمك الميكانيكي في تفحّص الهيكل، ويكون الشاري منتظراً على أحرّ من الجمر، وكأنه أمام باب غرفة العمليات الجراحية، يصطاد الميكانيكي لحظة هاربة من الرقابة، ويلقي على البائع سؤالاً واحداً مغمّساً بالتهديد غير المباشر: "في إلنا حلوينة من البيعة؟" أو "بدكنّ تظبطونا؟". إيماءة الرأس المفهومة تدعو الميكانيكي الى الإشادة بحسنات السيّارة، ثم ينتقل الى إحصاء الأعطال الصغيرة غير الفادحة فيها. وفي اليوم التالي يجول متفقداً السيّارات المعروضة، ويسأل عن عمولته قبل استلام التاجر كامل المبلغ. والـ"حلوينة" نوع من خوّة يدفعها التاجر على مضض. وإذا امتنع، عصر الميكانيكي كلّ خبراته ليكتشف مشكلة "خطيرة" تجبر الشاري على لملمة إعجابه بالسيّارة، والإسراع عدواً من المعرض. وفي مرات كثيرة رضخ التجار لتهديدات الميكانيكيين وهم على يقين أن حالة السيّارة المباعة عظيمة.

وثمة طريقة أخرى يلجأ اليها الزبون لفحص السيّارة قبل شرائها، فيستأذن صاحب المعرض بأخذ السيّارة في جولة إلى ميكانيكي قريب. ورد التاجر المعتاد على هذا النوع من الأسئلة: "طبعاً، الى أين؟". يجيبه الزبون بكل اطمئنان: "عند فلان". وبعد الموافقة يأمر التاجر أحد موظفيه بمرافقة الشاري، وقبل أن تختفي مؤخّرة العربة يكون قد اتصل بالميكانيكي وأخبره: "واصل لعندك سيّارة كذا، مشّيلو ياها".

ومن الخدع التي يلجأ إليها التجار "إسكات" صوت المحرّك الرديء بواسطة استبدال زيت المحرّك بزيت ناقل السرعة الذي يشتعل على حرارة 10/40. والكلفة الأدنى لتصليح المحرّك أربعمئة دولار. وحده الميكانيكي يستطيع أن يكتشف الخدعة.

أما إذا اشترى الزبون سيّارة من معرض، بعد موافقة الميكانيكي، وظهر عطل مفاجئ بعد مدة وجيزة، وعاد الزبون مستفهماً عن السبب، فالجواب الجاهز: "حظك عاثر".  
ومن الزبائن من يستبدل سيّارته بأخرى من المعرض. وأمام التاجر خياران، إما أن يشتري القديمة بأبخس الأثمان إذا قُدّر له، أو يضيف على سعر مبيعها في الأسواق بضع مئات من الدولارات إذا كان سعر سيّارته المعروضة مربحاً، أو كانت السيارة تخفي عطلاً فادحاً.

إلى ذلك ثمة أنواع من الحيل تقود الزبون الى دخول المعرض. وبعد جولة قصيرة في الأرجاء، يسأل عن نوع وتاريخ صنع سيّارة معينة. فيعرف التاجر أن الرجل اشترى قبل أن يأتي. فيطلب سعراً زهيداً، يتأمله السائل مغتاظاً. فيلتفت إليه البائع مستفهماً بدوره: "ما تكون اشتريتا؟".

تبقى الطريقة المثلى لفحص السيّارة هي مراجعة الموقع الإلكتروني المذكور آنفاً في الجزء الأول من هذا التحقيق، إذا كان مصدر السيّارة أميركياً. وإذا لم يتوافر الرقم المتسلسل، من الأفضل اصطحابها الى مراكز متخصصة تعاين السيّارة من خلال كمبيوتر ـ لا يقبل عمولة ـ. وقد تكون هذه الوسيلة الأخيرة مكلفة (تتراوح بين خمسة عشر وخمسة وعشرين دولاراً) إذا كان ذوق الشاري صعباً.

أذواق اللبنانيين

لون اللبنانيين المفضل هو اللون الأسود بلا منازع. فمنهم من يستهل أسئلته بـ"أريد سيارة سوداء"، من دون أن يذكر نوعها. واللون التالي المحبب الى القلوب هو الرمادي، بينما الأبيض لا يزال من الألوان غير المرغوبة على رغم بعض الطلب الطفيف في الآونة الأخيرة. والسيّارات الألمانية من نوع ب.م دبليو( BMW)  ومرسيدس هي الأكثر مبيعاً. ومنذ سنوات قليلة أصبحت الأذواق ميّالة الى سيّارات الجيب. وبعضهم يشتري في غضون خمس دقائق. ومنهم من يحوّل المعرض الى مزار يؤمّه على مدى أيام. وبعض آخر لا يشتري قبل أن يكون زار المعارض كلها. وأغلب طلاب الجامعات يشترون سيّارات "ب.م" بميزانية لا تتعدى الخمسة عشرة ألف دولار أميركي. أما النساء فيفضّلن الجيب والسيّارات التي يعود تاريخ تصنيعها الى ثماني سنوات ماضية مثل جيتّا، هوندا سيفيك، هوندا أكّورد، غولف، تويوتا... وكل من له إلمام بسيارات الـ      Sedan  ) التي تعمل على أربع أسطوانات (Cylinders) تبدأ أسعارها من أحد عشر  ألف دولار. والجيب الرباعي الدفع من أربعة عشر الفاً. الـ"ب.م" من خمسة عشر الفاً، وإذا كانت (Coupe) أي بمقعدين، يضاف على السعر ألفا دولار. والمرسيدس لا يقل سعرها عن تسعة عشر ألفاً.

ورغم اختلاف أذواقهم وسعيهم إلى ما يناسب حاجاتهم وإمكانياتهم المادية، لا زال اللبنانيون يهتمون باقتناء سيّارة يمارسون من خلالها نزعتهم الاستقلالية. فالمنزل، على سبيل المثال، الذي يتألف من عائلة من خمسة أفراد أعمارهم فوق الثامنة عشرة، تملك خمس سيّارات. وقد يكون ذلك لأن اللبناني يشعر بانتقاص في كرامته إذا لجأ إلى سيّارات الأجرة، والمواصلات العامة، في تنقله. والحق أن دخول أكثر من ثلاثين ألف سيارة في السنة الى السوق، وسباق الدولة مع الزمن لاستنباط حلول لمشكلات السير، يجعل هذه المسألة من أهم مشكلات البلد. وهكذا يكتمل البعد الثلاثي للصورة التقليدية للشاب اللبناني النموذجي. ثياب من ماركات عالمية، وهاتف خلوي حديث يقتصر استعماله على زرّي الإجابة والإغلاق، وأخيراً سيارة جديدة يشاركه المصرف ملكيتها حتى إشعار آخر.