!ماذا عن مؤتمر لحوار الرعايا؟

... وفي الموعد المقرّر، بالدقيقة، وفي المكان المقرّر بالتحديد، القصر الجمهوري، وباللباس المتحرّر من البروتوكول، وبابتسامات الشوق إلى التلاقي بعد تجاوز جبال الشتائم المتبادلة وبحور الاتهامات الخطيرة التي اعتادوا على التناوب في إطلاقها و»مداعبة» بعضهم بعضاً بها: تلاقى أقطاب الحوار المفتوح إلى الأبد للمرة السادسة في العهد الجديد، تحيط بهم كاميرات البث المباشر لتنقل إلى العالم صوراً حية عن الوفاق اللبناني وطيد الأركان.

المشهد حضاري بأكثر مما تسمح به وقائع اللحظة، ميدانياً، وهو يفرض الانتباه إلى مفارقة فاقعة: فصحف الصباح تحمل بالأسود على الأبيض تصريحات لأقطاب الحوار، بعضهم أو كلهم، وشاشات الفضائيات كانت قد نقلت ليلاً مقابلات ومساجلات حية (لايف!!)، وكلها تتضمن هجمات صاعقة وعمليات قصف مضاد في غاية العنف، حتى أن بعض المذيعات والمذيعين الأكفاء طالما اضطروا إلى التلطي خلف أكياس الرمل، حتى لا تطاولهم بعض القذائف الطائشة أو بعض اللكمات الموجهة عبرهم إلى «المحاور» المختبئ خلفهم!

في المساء، جلس «الرعايا» الذين فاتهم العرض الصباحي إلى شاشاتهم يتفرجون على قادتهم المخلدين، وقد غلبتهم الحيرة: هل يصدقون ما تراه عيونهم أم ما سمعته آذانهم، قبل ساعات قليلة، من هؤلاء العضاريط الصناديد الأفذاذ؟!

وبديهي أن تستولد أذهانهم، وهم بين اليقظة والنوم، بعض الأسئلة الساذجة التي طالما فرضوا على أنفسهم أن يرجئوا الإجابة عنها، ومنها:

طالما أن قادتهم، على اختلاف منابتهم وطروحاتهم وعقائدهم وأمزجتهم وأغراضهم، على مثل هذا المستوى من التحضّر واللباقة (عليم الله) والدماثة والتشبّع بالروح الديموقراطية (الأصيلة)، فلماذا يحكم التوتر «الشارع»؟! ولماذا يضطرب حبل الأمن إذا ما غامر فريق رياضي فتجرأ على القدوم إلى «أرض» ملعب خاضعة لنفوذ الطرف الآخر؟

وطالما أن الأقطاب الذين يتوارثون الزعامة كابراً عن كابر، أو الذين اقتحموا النادي عنوة بقوة الثأر أو بسحر الأوراق الخضراء التي تحمل في منتصفها دليل الإيمان العميق «بالله نثق»، يتلاقون ويتحاضنون في غمار الشوق، ثم يودعون بعضهم بعضاً بالعناق متواعدين على اللقاء المقبل، فلماذا يأخذهم التعصّب ـ هم ورعاياهم المخلصون ـ إلى إنكار صلة الرحم مع من كانوا في منزلة الإخوة أو «الرفاق» أو الأصدقاء الحميمين، والانقلاب على تاريخهم، والاندفاع إلى مواجهتهم والتصادم معهم، في الفترة الفاصلة بين دورتين لمؤتمر الحوار المفتوح إلى أن يقضي كل من زعمائهم وطره، فيبدّل في خطابه غير عابئ بمن سيسقط منهم شهيد المفاجأة القاضية؟!

لماذا يقبل كل من «الأقطاب» الآخر كما هو، بإيديولوجيته (كلمة كبيرة، أليس كذلك؟!) وأفكاره (كلمة كبرى!..) وتحولاته التي يتصل بعضها بالمزاج ويتصل بعضها الآخر بالغرض، ثم يأمر أنصاره ومحازبيه بأن يرفضوا «الآخر» المختلف معهم وعنهم، سياسياً، وأن يطاردوه باللعنة، ويحقروه في معتقداته التي لا تختلف في جوهرها عن «السائد»، فلا هي طارئة ولا هي مستوردة... وتراهم يصدعون لأمره ويلتزمون حتى الاحتراق في نار الفتنة؟!

... وماذا ستكون عليه حال هؤلاء «الرعايا» المخلصين حتى الانتحار غداً، بعد إعلان نتائج حروب الانتخابات، وتبادل المواقع بين القادة، وتغيير التحالفات من أجل ضمان التقاسم المتوازن للسلطة ومنافعها الكثيرة عبر المجلس النيابي الجديد والحكومة التوافقية التي ستنبثق عنه، ولو بعملية قيصرية؟!

... ولماذا لا يعقد «الرعايا» مؤتمرات حوار خاصة، سوف تكون، بالتأكيد، أكثر صدقاً، وأعظم نزاهة، وأدق تعبيراً عن هواجسهم ومطامحهم، وتشوقهم إلى حياة طبيعية؟
لماذا لا يتلاقون فيرفعوا أصواتهم، مؤكدين حضورهم المؤثر، أبرياء من الغرض، مخلصين لأنفسهم وأولادهم وأحفادهم ولحقهم في غد من الاطمئنان والسلامة الوطنية عبر الوحدة؟!

أعرف أنني أتحدث في نومي... مع أن صور القادة الأفذاذ وهم يتباسطون ويتبادلون النكات ويقهقهون تشغل البال وتجعلك تفكر بسذاجة: أتراني أنا موضوع النكتة؟!
مع ذلك يتمنى الرعايا نجاح مؤتمر الحوار في إنجاز جدول أعماله... ولو في القرن المقبل!

المهم أن ينتقل جو القصر إلى الشارع الذي نسي كيف يكون الضحك من القلب، ولم يعد يعرف إلا ذلك النوع من الضحك الذي كالبكاء!

                                                طلال سلمان (السفير) ، الاربعاء 29 نيسان 2009

Ref: