لبنان الغنيّ بالمياه... يعطش

ما هي المياه التي يشربها اللبنانيين؟

ثمة في السوق ألوف الشركات والمحال التي تكرر المياه وتبيعها بأسعار بخسة. فغالون المياه في ضواحي بيروت الجنوبية مثلاً، سعته عشرون ليتراً، يباع بألفيّ ليرة لبنانية، وأحياناً أقلّ. وهناك بعض الأحياء (الأموات؟)، من مثل أحياء بئر حسن الفقيرة، يباع فيها الغالون بخمسمئة ليرة لبنانية. هكذا لا تصحّ نظرية الرئيس نبيه بري. فالماء لم يرقَ إلى مصاف أن يصير أغلى من النفط. ربما يحكي الرئيس بري عن ماء معدنيّ خال من التلوّث، كمثل الماء في جنان الخلد. لكن هذا الماء لا وجود له حتى في معظم الشركات التي تمتلك اسماً في السوق، وهي كثيرة، لأن هذه الشركات لا تخضع لرقابة وزارة الصحة، ولا رقابة وزارة الطاقة والمياه. لا يتم فحص الماء في هذه الشركات إلا في ما ندر، وإن تم ذلك فهو يجري عبر مختبرات الشركة البائعة نفسها، لأن المختبر الوطني مقفل منذ أمد طويل.

غياب التخطيط

يؤكد الخبراء هذا الأمر، ويضيف الخبير البيئي ومسؤول صفحة البيئة في جريدة السفير حبيب معلوف، أن المشكلة تكمن في ثقة الناس بالقطاع الخاص، مع أنهم لا يثقون بالدولة. وهذا بحدّ ذاته مشكلة كبيرة، لأن عدم الثقة بالدولة ينبغي أن ينعكس تلقائياً على كل القطاعات، باعتبار أن الدولة لا تراقب الآخرين، طالما لا تراقب نفسها.
مشكلة أخرى يتحدث عنها معلوف ترتبط بترشيد استهلاك المياه، والتخطيط السليم لصرف المياه، التي في الغالب تذهب هدراً إلى البحر. لذا أيها المواطن، نصيحة الخبراء إليك، أن "عمول منيح وما تخلي المي تروح ع البحر". لكن الناس يشتكون من أن الماء لا تمر ببيوتهم في خلال رحلتها إلى البحر. سكان بئر حسن بمعظمهم يشترون ماء الشرب، لأن الماء التي تصل عبر الصنبور والقساطل، مالحة وكلسية، وتكاد لا تصلح لشيء. بعضهم لا يستحم بها حتى، ولا يستخدمها إلا لتنظيف الأرض... وفي "السيفون".

ماء "الدولة" كما يسمونه، يأتي بالتقطير إلى منازلهم، ولا يكفيهم لغسل الملابس والتنظيف، لهذا فإن شراء ماء الشرب أمر حتمي. في شوارع بئر حسن الفقيرة الداخلية، تنتشر خزانات المياه في كل الدكاكين في الحيّ. الإتجار بالماء يشكل مصدر عيش للكثيرين. جزء كبير ممن يبيعون الماء هم من حاملي الجنسية السورية، يشترون الألف ليتر بسبعة عشر ألف ليرة لبنانية من صاحب صهريج مياه يعبئها من أحد ينابيع الجبل. لكن السكان لا يثقون بمصدر المياه التي يشترونها. يقول أحدهم، وهو رجل ستيني، إن لا شيء يضمن سلامة ونقاوة المياه التي يشتري الغالون منها بخمسمئة ليرة، لكنه مضطر إلى شرائها، لأن قنينة مياه الشرب في السوق، سعة الليتر الواحد، تباع بألف ليرة، وهو طبعاً لا يمتلك المال ليدلّع نفسه هذا الدلع. يعود العجوز بالذاكرة إلى أيام زمان حينما كانت المياه تأتي بوفرة إلى الحيّ الذي لم يكن مكتظاً كما هي حاله اليوم. يدل بسبابته إلى خزان عال، ويقول إن حركة "فتح" شيّدته أيام تواجدها في بيروت. ويضيف: "الله يرحمك يا ابو عمار". لدى الفقراء، عندما "تدق المياه" لا تحصل على مياه. بل تحصل على أنواع كثيرة منها: مياه حزبية، وهي تعبأ في الخزانات التي تضعها الأحزاب في الأحياء. وهذه كثيرة في الضاحية، بعضها لحركة "أمل" وبعضها الآخر، كان "إيرانياً" قبل أن يزال العلم الإيراني عنه، ويحلّ علم "جهاد البناء" بدلاً منه. وهناك المياه التجارية التي تختلف بحسب المحال التي تبيعها، فبعضها يباع في متاجر محلية تقوم بتكريرها بطرق بدائية وتجعلها في غالونات، ومعظم هذه المحال، إن لم تكن كلها غير مرخصة.

والحال، كما يقول حبيب معلوف إن الشركات التي تمتلك تراخيص سارية المفعول في لبنان، لا تتعدى الخمسة عشر شركة. هذا يعني أن هناك ألوف الشركات غير المرخصة، وغير الخاضعة للرقابة.

عوامل خارجية

إذاً "دق المَيّ" لا تحصل على "مَيّ". بل تحصل على ما يشبهها. خبيرة البيئة والصحة العامة روى الأطرش تقول إن الناس لا يثقون بماء الحنفية لأن الدولة ليس لديها في كل منطقة محطات تكرير متطورة تعالج المياه قبل ضخها إلى المنازل. لكنها تقول إن مياه العاصمة يمكن شربها، لأن محطة تكرير المياه في الضبية تعمل بشكل جيد، وهي تعالج المياه بشكل ممتاز قبل إرسالها إلى شبكات التوزيع. لكن الأطرش تستدرك بأن المشكلة تكمن في الشبكات التي لا تخضع للصيانة، فهي بمعظمها صدئة، وتتشابك مع شبكات الصرف الصحي فيتسرب ماء الصرف الصحي إلى ماء الشرب، وهنا الكارثة البيئية بعينها.

صحياً أيضاً، ليس هناك مياه صحية بالكامل في لبنان. كل المياه التي تباع، لديها مشكلات معينة، بعضها في أصل تكوينها ومصدرها، وبعضها الآخر بسبب العوامل الخارجية. فالشمس، ومادة "الفينول" التي تتكون منها عبوات تعبئة المياه المعدنية، عندما يتفاعلان يؤديان إلى تشكّل مادة سامة، تؤدي إلى أمراض سرطانية على المدى الطويل. لهذا تنصح الأطرش أن يضع الناس الماء في عبوات زجاجية، كما تنصح بأن يتم غلي المياه على درجة حرارة مرتفعة للتخلص من الميكروبات، خصوصاً في حال وجود أطفال رضّع في المنزل. وتشدد الأطرش على أن بعض الوسائل التي يستخدمها الناس، والمتوارثة أباً عن جد، تفيد في بعض الأحيان، لكنها ليست كافية، وتعني في ذلك استخدام الشاش أو القماش على حنفيات مياه الشرب، والتي تمنع تسرّب الرواسب المرئية. لكن الخطورة تكمن غالباً في الرواسب الدقيقية وغير المرئية بالعين المجردة، وهذه تحتاج إلى فحوص دقيقة للتأكد من تلوّثها، وإلى آلات تكرير عالية الجودة للاطمئنان إلى نقاوتها وصلاحيتها للشرب.

ومن الآن حتى تتيسر المياة النقية الصالحة للشرب في كل متجر وحنفية وحيّ في بلدنا، لا بد من الكثير من الدعوات الصالحات قبل وبعد كل كلمة "هنيئاً"، عسى أن يشرب اللبناني، فيروي عطشه، وينجو... فهل كثير على اللبناني أن يطلب ثلاث أمنيات دفعة واحدة؟!

                                                                رامي الأمين ، الثلاثاء 16 حزيران 2009

Ref: http://www.nowlebanon.com/arabic/NewsArticleDetails.aspx?ID=98888&MID=100&PID=46