أطفال الشوارع

نقرة على الزجاج

منى (9 أعوام) هي واحدة من هؤلاء التعيسات اللاتي أجبرتهن ظروفهن الأسرية على العمل في بيع علب المناديل الورقية على جادة الشهيد هادي نصرالله في الضاحية الجنوبية. منى تعمل من الفجر وحتى غروب الشمس، تجوب هذا الأوتوستراد متنقلة من سيارة إلى اخرى، تعرض مسح زجاجها وتنظيفه، وتستعطف السائقين لشراء "علبة محارم" كي يمكنها أن تعود إلى بيتها ومعها ما تيسر لتنفق منه على إطعام شقيقتها وشقيقها الصغيرين ووالدتهم المريضة. تنقر على زجاج نافذة السيارة بأصابعها المتسخة الصغيرة، وتتوسل، ونادراً ما يُستجاب طلبها...

ومنى تعيش في زاروب داخلي في مخيم صبرا حيث يكثر المقيمون من التابعية السورية، وفي منزلها المؤلف من غرفتين يتكدس سبعة أولاد. تقول: "أبيع المحارم وأنظف زجاج السيارات منذ كنت في السابعة (...) أبي تركنا بعد مرض أمي".
منى ذات اللهجة السورية، مكتومة القيد ولا تعرف تاريخ ميلادها الصحيح ولا تملك اي أوراق ثبوتية.

هذه واحدة من عشرات.. من مئات.. الأطفال الذين يحاولون كسب قوتهم من شوارع المدن اللبنانية هذه الايام. لكن وضع منى، على مأساويته وعلاّته، يظل أهون وأرحم من وضع أولئك الأطفال الذين يجبرهم آباؤهم على التسوّل، ثم لا يلبثون أن يسقطوا ضحايا بعض العصابات الإجرامية التي تدفعهم نحو تجارة الرقيق والدعارة، فينضوون في عصابات وشلل يتخرّج منها القتلة واللصوص.

درجة أولى

في شارع آخر التقيتُ "زياد" إبن العشرة أعوام، وهو ماسح أحذية "من الدرجة الأولى" كما يقول. زياد يتسول ويمسح الأحذية منذ ثلاثة أعوام وهو أصبح مألوفاً ومعروفاً من المارة في منطقة عمله، يقول: "أنا أعمل هنا منذ زمن وجميع المارة يعرفونني. أبدأ عملي من الثامنة صباحاً حتى غياب الشمس لأوفر مصروفي، فأنا أصبحت رجلاً ويجب ان أعتمد على نفسي".

وعندما تسأل زياد عن عائلته يضحك ويقول : "لا أعرف".

تاريخ الظاهرة

ظاهرة "أطفال الشوارع" وفدت إلى لبنان قبيل اندلاع الحرب الأهلية وحروب الآخرين على أراضينا في العام 1975. وهي انحصرت يومذاك في "حزام البؤس" الذي كان مؤلفًا من بعض الضواحي الجنوبية والشرقية والمخيمات الفلسطينية المحيطة بالعاصمة بيروت، إلا أنها تضاعفت بعد تلك الفترة بفعل تدهور ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية في لبنان. وقد دلت كثرة عدد الأطفال الذين تحولوا إلى مقاتلين لدى طرفي الحرب، على أن عدد أطفال الشوارع اللبنانيين ازداد في الأعوام التي سبقت اندلاع الحرب.

لكن بعد العام 1990، طرأ العديد من التغيرات الجذرية على بنية لبنان الاجتماعية والسياسية وتركيبته الديموغرافية. وتجدد الحديث في هذه المرحلة عن ظاهرة أطفال الشوارع، ودأبت جمعيات غير حكومية ووسائل إعلام كثيرة على تسليط الضوء على بعض جوانب حياة هؤلاء الأطفال.
وقد أُعدت في هذا الصدد دراسات كثيرة أجمعت على وجود الظاهرة وعلى خطورتها، إلا أنها اختلفت في استنتاجاتها بشأن جنسيات هؤلاء الأطفال، وأعدادهم، وأماكن انتشارهم، ونوعية المهن التي يشغلونها. وقد أدى هذا الاختلاف ـ الناتج من أسباب سياسية ومواقف مسبقة في الغالب ـ إلى عدم وضع سياسات معينة لمعالجة وضع هذه الشريحة من الأطفال المشردين، والحدّ من المخاطر التي تمثلها هذه الظاهرة على الأطفال أنفسهم، كما على الأمن الاجتماعي بشكل عام.

لم يتحدد بدقة مَن هو "طفل الشارع" في لبنان، هل هو الطفل العامل، أم أنه الطفل الذي يعيش في الشارع؟، أم الإثنان معًا..؟ وإذا كان هذا الطفل لا يحمل الجنسية اللبنانية، لكونه فلسطينيًّا أو سوريًّا أو مصريًّا أو غير ذلك، ومقيمًا على الأراضي اللبنانية، أفلا يكون من مسؤولية السلطات اللبنانية معالجة وضعه ومنحه الرعاية اللازمة؟

ربعهم لبنانيون

ووفقاً لدراسة موّلتها إحدى الهيئات الدولية في العام 1995 شملت عينة من خمسين طفلا مشردًا تراوح أعمارهم بين (7 ـ 12) سنة، تبين أن ربع هؤلاء تقريباً لبنانيون، ونحو 70 في المئة منهم من السوريين والبدو والنَوَر. وفي دراسة أوسع نفذتها الجامعة الأميركية في بيروت وتضمنت مسحًا ميدانيًّا للتحقق من ظروف معيشة 5000 طفل مقيم، تبيّن أن 75% من "أطفال الشوارع" هم من غير اللبنانيين.

غير أن هذه الدراسات تخللها، كما قيل في حينه، بعض الانحياز بخصوص جنسية الطفل، وهو ما يشكل عنصر تحريض سياسي واجتماعي، وحتى عنصري، ضد أطفال الشوارع غير اللبنانيين. وقد رمت العديد من الدراسات في هذا الشأن إلى القول بأن هذه الظاهرة ما كانت لتحصل وتأخذ هذا الحجم لولا وجود سوريين وفلسطينيين وأغراب في لبنان يقيمون بطرق غير قانونية. وهذا إن كان لا يجافي الحقيقة في الكثير من الأحيان... لكنه لا يعني رفع المسؤولية عن الحكومة اللبنانية في معالجة هذه الظاهرة.

                                  منال صقر ، السبت 20 حزيران 2009

Ref: http://www.nowlebanon.com/Arabic/NewsArticleDetails.aspx?ID=99459&MID=100&PID=46