قصر الاستقلال في القنطاري حلّة جديدة لأوّل قصر جمهوري

قصر الاستقلال في القنطاري حلّة جديدة لأوّل قصر جمهوري
مي عبود أبي عقل

 

 

 

قصر الاستقلال في القنطاري حلّة جديدة لأوّل قصر جمهوري
الحفاظ على الطابع الخارجي التراثي وتجديد الداخل لمهمات المستقبل
مي عبود أبي عقل- "النهار"

 
لم يكن يدري الوجيه البيروتي حنا حنينة ان المنزل الذي بدأ بناءه لسكنه العائلي في منطقة القنطاري سيتحول بعد 73 عاماً الى القصر الجمهوري لأول رئيسي جمهورية في دولة لبنان المستقل.

قصته

عام 1870 بدأ حنينة تشييد بيت تقليدي يتألف من طبقة ارضية وطبقتين علويتين على العقار رقم 1761 – المصيطبة على مساحة اجمالية تبلغ 3200 متر مربع، يشبه بتصميمه العديد من المنازل البيروتية من حيث تقسيمه الى دار يتوزع عدد من الغرف حولها، وشرفات ذات قناطر من الحجر مزنرة بدرابزون من الحديد المشغول، وتحوطه حديقة تتوسطها بركة مياه ونافورة، ويكلله القرميد الاحمر. وفي عام 1929 ساءت احواله المادية نتيجة الازمة المالية العالمية فعرض بيته للبيع، واشتراه منه صهره زوج ابنته فيكتوريا الثري المعروف درويش يوسف الحداد . بعد وفاة الحداد انتقل البيت بالوراثة الى ابنته الوحيدة رينيه زوجة الشيخ فؤاد خليل الخوري شقيق الرئيس الشيخ بشارة الخوري الذي استأجر الطبقة الاولى منه لسكن عائلته عام 1936، وتم تأجير الطبقة العلوية الى الدكتور كوتار ثم الى موظف فرنسي كبير اسمه نيدوليه.
بعد الاستقلال استأجرت الدولة كامل المنزل بمبلغ 15 ألف ليرة لبنانية، وأخلي المستأجر الذي كان يسكن الطبقة العلوية التي تحولت لسكن عائلة الرئيس بشارة الخوري، واصبح بالكامل مقرا لرئاسة الجمهورية تعقد فيه جلسات مجلس الوزراء وتقام الحفلات الرسمية ويستقبل كبار الشخصيات العربية والاجنبية. وعند انتخاب كميل شمعون رئيسا للجمهورية، استأجره من آل الخوري طيلة فترة ولايته التي امتدت بين العامين 1952 و1958 . وعند انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسا فضل الانتقال الى قصر آخر عند مدخل زوق مكايل في منطقة كسروان، وعاد قصر القنطاري الى مالكيه الاساسيين احفاد درويش الحداد ومنهم السيدة فيكتوريا زوجة الشيخ ميشال بشارة الخوري فسكنت الطبقة العلوية منه مع زوجها واولادها. وبقي ملكا لآل الخوري الى ان اشتراه الرئيس الراحل رفيق الحريري عام 1985 واصبح ملكا لـ"الشركة العقارية النرجس" المملوكة من آل الحريري.
بقي القصر على حاله حتى عام 2008 حين قرر الرئيس سعد الحريري تأهيله واعادة ترميمه ليستعمله مقراً لمكتبه الخاص. وسلم المهمة الى شركة "اوجيه لبنان"، واوكل تصميم الديكور والهندسة الداخلية الى المهندس سليم انصاري.

"
نفضة" وترميم

البيت الكبير المبني من الحجر الرملي والمسقوف بالقرميد الاحمر، تركت الحرب آثارها وبصماتها القوية في كل انحائه واثرت على بنيته الانشائية، ما استلزم اعمال ترميم واعادة بناء مع المحافظة على هندسته المعمارية الاساسية وطابعه التراثي، على ما يؤكده المهندس ميلاد ابو جودة.
"
النفضة" طاولت كل القصر، وادخلت تعديلات على الهندسة الداخلية بما يتلاءم مع حاجات ودواعي الاستعمال الجديدة، واستقدمت احجار رملية من بيوت قديمة مهدمة في بيروت لاستخدامها في تلبيس الحيطان، وتم تركيب زجاج مضاد للرصاص.
الطبقة الارضية التي كانت على ما يبدو اسطبلا للخيول، تدل على ذلك حلقات الحديد الموزعة على الحيطان، طرأت عليها تغييرات جذرية، وفتح كله على بعضه البعض لتتحول الى قاعات استقبال، فأزيلت الشبابيك وأعيد فتح القناطر والواجهات، وعاد عقد الحجر للظهور بعد قشط الطين عنه.
الطبقة الاولى حافظت على تقسيمها الاساسي الذي نجده في بيوت بيروت التراثية: بهو كبير تقطعه قناطر مزخرفة ومنقوشة تتكىء على اعمدة رخامية، أضيف 4 منها جديدة، تقود الى الغرفة التي كانت مكتبا للرئيسين بشارة الخوري وكميل شمعون وستصبح مكتبا للرئيس سعد الحريري. ويحوط البهو عدد من الغرف ستخصص للاجتماعات ولمكاتب الموظفين، وقاعة انتظار واستقبال احتفظت بالمدفأة الحجر. الارض اعيد تبليطها برخام الكارارا ذاته الذي كان موجودا، وزينت الجدران برسوم من الفن الايطالي، وارتدت السقوف حلة الجفصين الابيض والخشب المحفور المعتق، تتدلى منها ثريات من الكريستال صنعت في لبنان. وتم تصليح الابواب الخشبية ودهنها، واضيفت مسكات الحديد والسيراميك، وحافظ باب مكتب الرئيس الحريري على سماكته المزدوجة التي كانت تعوق التنصت ايام الشيخ بشارة الخوري على ما يقال.
اما الواجهات الزجاجية فاحتفظت بطابعها الهندسي الايطالي من حيث القناطر الحجرية المزينة بالخشب المزخرف، وتفتح على شرفة مزنرة بالحديد المشغول كان يطل منها الرئيس بشارة الخوري ليحيي مناصريه ويلقي الخطب.
الطبقة الثانية كانت مخصصة لسكن الرئيسين الخوري وشمعون مع عائلتيهما. وتشبه الطبقة الاولى بتقسيمها من حيث صدر البيت والغرف المحيطة، وتم تجديدها ايضا وتزيينها باسلوب الرسومات ذاتها في الطبقة الاولى. ويطل على شرفة جانبية يقال ان الرئيس كميل شمعون اطلق منها النار للدفاع عن نفسه في ثورة 1958.
يربط بين الطبقتين مصعد صنعت غرفته من الخشب والزجاج داخل اطار من الحديد المشغول، تمت المحافظة عليه بعد تجديد محركه وكابلاته الكهربائية طبعا. واعيد سقف السطح بالقرميد الاحمر.

الحديقة

يحوط القصر سور من الحجر يقطعه مدخل رئيسي وبوابتان جديدتان مستحدثتان، وتحتفظ البوابة الرئيسية بحرفي H.H  اللذين يرمزان الى المالك الاول حنا حنينة، للمحافظة على الطابع الاصلي. وفي الداخل درجان دائريان يقودان الى شرفة الطبقة الاولى، وحديقة مزروعة بالورود والاشجار ألغيت منها نافورة المياه بينما تم الحفاظ على شجرة المانغا المعمرة والتي قيل ان الملك فاروق اهداها الى الشيخ بشارة الخوري، وعلى اساسها تم تصميم سور الحجر المحيط بالقصر. وعلى الجهة اليمنى يركن ناووسان من الفترة الرومانية احدهما من ايام الرئيس بشارة الخوري والثاني تم العثور عليه اثناء التنقيبات الاثرية التي جرت في منطقة القنطاري – برج المر منذ بضعة أعوام. وتتوزع على جدران القصر الخارجية وداخل العقد قناديل من البرونز استقدمت من باريس.

تاريخ وتراث

يقع قصر الاستقلال في اطار منطقة صنفت "ذات طابع تراثي" وتشمل: عين المريسة - ميناء الحصن - القنطاري - سبيرز - الظريف، ويقوم فيها العديد من المباني التراثية الجميلة، وموجود في مربع جغرافي يضم منازل شخصيات مهمة مثل اميل اده وتقي الدين الصلح ووليد جنبلاط وايوب ثابت.
احداث كثيرة شهدها هذا البيت التاريخي والعريق على مدى 140 عاما، وعايش مرحلة كبيرة من المعركة السياسية لاستقلال لبنان. ففي ليل 11 تشرين الثاني 1943 اعتقلت سلطة الانتداب الشيخ بشارة في غرفة نومه داخل هذا المنزل على يد عسكر فرنسي وسنغالي، ونكلوا بأفراد عائلته. وعلى اثر اعتقاله ورياض الصلح وبعض اعضاء الحكومة والزعماء البارزين انطلقت التظاهرات الشعبية تطالب بالاستقلال وبالافراج عن المعتقلين وتوجهت الى القصر الجمهوري في القنطاري الذي غص بالحشود التي كانت تردد " بدنا بشارة، بدنا رياض، بدنا حكومة شرعية". ولما اطلق سراح المعتقلين في راشيا توجهوا الى هذا القصر ومن على شرفته القى الشيخ بشارة خطابا والى يمينه كانت تجلس زوجته السيدة لور شيحا، شقيقة ميشال شيحا أبي الدستور اللبناني كما لقب، وعرف من يومها بـ"قصر الاستقلال".

حلو ومرّ

عرف قصر الاستقلال اياما حلوة واياما مرة فكان شاهدا على احداث عام 1958 ومن غرفه وشرفته دافع الرئيس كميل شمعون عن نفسه بجفت الصيد وهو الصياد الماهر، ضد الهجوم الذي شنته عليه عناصر من حركة "المقاومة الشعبية" المعارضة. ولم توفره معارك الفنادق والاسواق عامي 1975 و1976 وبقية مراحل الحرب اللبنانية. وفي صيف 1975 خلال معارك القنطاري، دخل مسلحون الى القصر واحتجزوا الشيخ ميشال الخوري وهددوه بالقتل، وسعى ياسرعرفات شخصيا لاخراجه تحت وابل الرصاص حين كانت منظمة التحرير الفلسطينية تسيطر على المنطقة، اما موجودات القصر فضاعت ونهبت وبينها اوراق الشيخ بشارة وكتاباته ومنها مسودة الجزء الرابع من مذكراته التي كتبها بخط يده. وبعد ذلك بقي المنزل خاليا الى ان اشتراه الرئيس الراحل رفيق الحريري.  وفي هذا القصر احتفل الشيخ بشارة بعرس ابنه خليل الى جاكلين ابنة الثري الكبير جورج عريضة الذي اشترى يخت ادولف هتلر، ولهذه المناسبة تم تبليط الحديقة ليتمكن المدعوون من الرقص في ارجائها.
عام 1973 عرض الشيخ ميشال مقتنيات قصر القنطاري للبيع في المزاد العلني واشترى احد هواة السجاد سجادة اصفهانية كان يفضلها والده الرئيس الراحل بسعر 50 الف ليرة اي ما يوازي 20 ألف دولار في حينه.
في الأعوام الاخيرة تحولت بعض اقسام القصر الى استديو لتصوير برنامج "خليك بالبيت" للزميل زاهي وهبي لحساب "تلفزيون المستقبل"، وتحولت الطبقة الثانية منه الى مقر لـ"جمعية التنمية الاجتماعية" التابعة لـ"تيار المستقبل". ويستعد اليوم لاستقبال الرئيس سعد الحريري الذي سيجعله مقراً لمكتبه الخاص.
لكن الموعد الاقرب هو 20 ايار المقبل الذي يصادف الخميس الثالث من الشهر حيث يحتفل لبنان باليوم الوطني للتراث، ومن قصر الاستقلال بالذات ستنطلق الاحتفالات والنشاطات

Reference: Lebanonfiles.com