مهرجانات لبنان تستقطب جمهورين متناقضين ما بين الأوبرا والبوب

مهرجانات لبنان تستقطب جمهورين متناقضين ما بين الأوبرا والبوب. القواس تغني الخوجة في بيت الدين وميكا يُعَصرِن بعلب

 

إنطلق موسم المهرجانات في لبنان مستقطبًا أذواقًا موسيقيَّة تنوّعت بين الأوبرا في بيت الدين والبوب في بعلبك. فالفن الأوبرالي على أنغام كلاسيكيَّة قدمتها الأوركسترا الفيلهارمونية بقيادة وليد غلمية وغناء هبة القواس لنصوص شعريَّة في مهرجانات بيت الدين الدوليَّة، قابلها موسيقى عصريًّة مع النجم العالمي الشاب ميكا في مهرجانات بعلبك الدوليَّة.

بيروت: شهد لبنان في ليلتين متتاليتين (24 و25 حزيران/يونيو) افتتاح أكبر مهرجانين فنيين صيفيين في البلاد: بعلبك وبيت الدين. تميّز افتتاح المهرجانين بالهوية اللبنانية لنجومهما ولو بفن غربي خالص. وعلى الرغم مما تردد من أن المهرجانين خرجا عن خطهما المعروف والتزما واقعًا عالميًّا سائدًا سواء على صعيد البوب أو الأوبرا، إلا أنَّ أكثر من قاسم مشترك حضر بقوّة فيهما وتمثّل في التجاوب الحار مع نموذجين من الفنون العالميَّة، وكذلك في الحشود الجماهيريّة التي ملأت المقاعد.

ليلة 25 حزيران (يونيو)، كان الحدث في منطقة بيت الدين حيث للتاريخ حضورًا قويًا. وتحت قناطر القصر الشهابيّ جلست كتيبة من العازفين اللبنانيين والعالميين تجاوز عددهم المئة، بقيادة وليد غلمية ليعزفوا موسيقى الفرح.

عصا زفّت موسيقى الفرح
بمنتهى الدقَّة، قاد المايسترو المخضرم في التأليف السيمفوني غلمية رئيس المعهد العالي للموسيقى (الكونسرفاتوار)، أول أوركسترا فيلهارمونية لبنانية مبتكرًا أدواته بتواضع جم، حيث كانت عصا القيادة ذات حركة واحدة فقط في اتجاه فريق العزف المطلوب منه في لحظة ما أن يعزف متمِّمًا مناخ عزف زملائه في الأوركسترا. وكم كان أليفًا في رد التحيات الحارة العديدة على مدى الساعة والنصف من وقت الحفل، فالتصفيق يشتد بينما الرد بانحناءة بسيطة زادت من رصيده الجيّد أصلاً عند الجمهور.

وقدّم غلمية في افتتاح العزف مقطوعته الجميلة "الفجر"، وكان يواكب هبة بين مقطوعة موسيقية وأخرى، فعزف لكبار المؤلفين الموسيقيين ومنهم الفرنسي جورج بيزيه ( 1838- 1875)، والأميركي جورج جيرشوين (1898- 1937)، والبريطاني أندرو لويد ويبر والفرنسي جول ماسينيه (1842-1912) والروسي بيتر أليتش تشايكوفسكي (1840 – 1893)، والختام مع (الأمير ايغور) للموسيقار الكسندر بورودين (1833- 1887).

حنجرة توائم بين الأوبرا والشعر
أمَّا المؤلفة الموسيقية ومغنية الأوبرا هبة القواس، فأضاءت ليلة بيت الدين بصوت قادر ومتين وقوي ومطواع، وهي تواصل تعزيز تجربتها الهادفة الى مد جسر بين الفن الغربي (الأوبرا) والشعر العربي.

وفي ليلة بيت الدين نجحت أيما نجاح، وهي تشدو أشعارًا عربيَّة، فلحّنت "أسرى بقلبي" للوزير والشاعر عبد العزيز خوجة، و"يا نسيم الروح" لـ (الحلاج) و"انك أنا" من كتاب الفرح لـ (كمال جنبلاط)، و"أشممت عطري" و"لأني أحيا" للشاعرة اللبنانيَّة ندى الحاج، وتحبني للشاعرة اللبنانيَّة هدى النعماني، إضافة الى مقطوعة موسيقية بعنوان "بيت الدين" ألفتها خصيصًا للمهرجان.

كان الحفل راقيًا ومنتظمًا وقد حضره وزراء ونوَّاب ومثقفون، وأجاد فيه المشاركون من العازفين. ويستمر مهرجان بيت الدين الذي حتى السادس من اب (اغسطس) 2010.

ميكا... الذي كاد أن يطير!
إلى بعلبك، التي افتتحت مهرجاناتها ليل 24 حزيران (يونيو) بطريقة عصريَّة وغير اعتياديَّة هذه المرَّة. فعلى أنغام موسيقى البوب وآداء ميكا، رقص آلاف الشبان والأطفال في مدينة الشمس الرومانيَّة التي لفّت أعمدتها الرومانيَّة باللون الأزرق، فيما تغطّت الفراغات على المسرح بورود دوار الشمس.

ومهرجانات بعلبك التي ارتأت افتتاحًا شبابيًّا لصيف الـ 2010، لاحظت الإقبال الجماهيري لصغار وشباب، مما أدهش حتى الذين راهنوا على أن البرمجة لن تجد جمهورها ليسارعوا إلى الإعلان عن خطأ في التقدير، وخصوصًا أنَّ بعلبك أثبتت أنها تعمل حسابًا لكل الأعمار، حيث جاءت ردة الفعل الشبابية بالقدر المتوخى منهم.

وقد تعرّف اللبنانيون على ميكا - واسمه الحقيقي مايكل بينيمان - في العام 2008 حين لبى أول دعوة للغناء في بلده الأم لجهة الأم لبنان، وتحديدًا منطقة الجنوب. وغنى في الوسط التجاري. أما دعوته للغناء في بعلبك فقد حققت له واحدة من أمنياته الكبيرة لما يعرفه عن عراقة هذا الصرح التاريخي والأسماء التي تعاقبت على الوقوف بين أعمدته للغناء أو الرقص، وهو قال بعد الحفلة "كدت أطير من الفرح وأنا أغني"، ولا شك أن النقاد قالوا ذلك.

قفز ميكا وانتقل من ناحية الى أخرى برشاقة وسرعة تذكر بالراحل باكرًا قبل عام مايكل جاكسون، الذي تمتع بهذه الصفات على خشبات عالمية عايشت عصره الذهبي. أمَّا "ميكا" والملقّب بـ"عبقري موسيقى البوب"، فيتواضع كثيرًا حين يعلن أنه جزء بسيط من كل الذين اشتهروا قبله لأنه لا شك أخذ منهم عن وعي أو من دون أن يدري.

وغنّى ميكا الذي يكرر القول "البطن التي أنجبتني لبنانية"، من جديده وما سبقه بصوت جاذب قوي وحركات أهم ما فيها أنها عفوية جدًّا، مما أوجد ألفة ستخدمه طويلاً في مسيرته الفنية التي ستكون طويلة بشكل مؤكد، لأنه لا يزال في منتصف العشرينات، ووصوله الى بيروت كان من طوكيو التي كانت سابع عاصمة عالمية يغني فيها منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

حضور وأجواء
في كلا الليلتين، كان الجمهور رائعًا ومتفاعلاً مع الآداء، فطغى التصفيق والرقص والصراخ وحالات الهستيريا على حفل ميكا، بينما التزم جمهور "غلمية – القواس" آداب الإصغاء والتركيز على الجوانب الإبداعية في العزف الذي واكبته هبة بالصوت الجاذب منخفضًا أو مرتفعًا. وإن شاب البرنامج أنَّ وقت الغناء كان محدودًا وقليلاً، إلا أنه كان فاعلاً ومؤثرًا وعميقًا في تعبيره عن الجانب المتماهي من هبة مع الكلمات والأنغام الى حد السلطنة.

أما الفكرة القديمة الخاطئة على طول الخط فهي مقولة الجمهور عايز كده، هذا يوم كان الجمهور يقبل على الأعمال الهابطة لأنه لم يكن يعثر على أفضل من المتوفر. لكن الجمهور نفسه اندفع صوب الأعمال والعروض النخبوية أو الحديثة التي تقدم في إطار احترافي رفيع.

جيد أن المنبرين المهرجانيين الأولين في لبنان خاضا بجرأة ووعي في خيارات عصرية وجاذبة، تؤسس لاحقًا لما هو أرفع وأفضل.

 Reference: tayyar.org