قصة واقعيــة من الريف اللبنانـــي

كانا من الجيل القديم ،، جيل السواعد المفتولـة ، جيل جبل التراب بالعرق ، فأصبحا على كل لسان مجرد حكايــة... جيل الرعيــل الأول  فرحــل الكبير عن عمر ناهز 90 عاماً حيث ولد عام 1896 وذلك حسب السجلات التقديرية .. عاش أيام المجاعــة في العام 1914 وبقي يقتــاتُ من ما ســَلِــم من خيرات الأرض يوم نخر الجراد الأخضر واليابس وقضى على كل أمل بالحياة، هو أكبر أعمامي سنــاً وكان اسمه نجيب ، عمل في التجارة منذ نعومة أظفاره، اقتنى الدواب لنقل الغلال وبيــوت الشعـر من وإلى شحيم والبقاع الغربي، مشى المسافات الطويلــة شأنه في ذلك شأن أبناء جيلــه، وكان له أن تزوج وأنجب  ثلاثة توائم في سنين مختلفة إلى أن توفت زوجته وهو في الخامسة والخمسين  ، كان حريصاً كل الحرص على خلــوّ الطريق من المسامير فكان يجمعها لرفع الأذى عن الناس، كان يعمل بجهد وبقي كذلك حتى ايام عمره الأخيرة ، وقد أثمرت حياته ثروةً جعل أبناءه وبناته في بحبوحـة ما زالوا يعيشون في خيرها ، كان يلبـس الشروال البلدي المعروف ويعتمر  لونين من الطرابيش أحدهما خمري "شغل صيدا" والآخر أحمر قاني " شغل بو نمر"  عمل في حياكة شعر الماعــز وصنع الكثير من خيم البدو التي كانت تصـدّر إلى سوريا، الأردن، السعودية ودول الخليج الأخرى حيث عمل الكثير من أبناء شحيم في هذه المهنــة وازدهرت هذه الصناعــة في مطلع الخمسينات ولمدة زادت عن ثلاثـة عقود . كان عمي نجيب معروفاً في الوسط التجاري المتنقل بين قرى قضاء الشــوف من الخريبة في مرتفعات جبل نيحــا إلى مرستي وعماطور وبعدران والسمقانية وبقعاتــا وبعقليــن والباروك، كان حريصاً على أن يهدر المال إلا في الاتجاه الصحيح. 

أمــا عمي الآخــر فكان يصغره بأربعة عشر عاما حسب دفاتر القيد التقديرية لدى المخاتير آنذاك، عمي هذا كان اسمه محمد ، عمل في بيروت وكيل أملاك رجل أعمال عراقي حيث كان يقيم في إحدى شقق عماراته ، وكان أن تزوج وأنجب صبيين وبنتيـن عاشوا معه في بيروت ، حيث توفيت زوجتــه وهو في الثامنة والأربعين وبقي أرملاً متجاهـلاً نصائح الأقارب والأصدقاء بضرورة الزواج كي "لا يتبهدل" بآخرتـه ، فرفض الكثير من العروض حيث دأب أبناؤه على خدمتـه . كان دائم الاهتمام بنفسه وملبسـه حيث لا تفارقه ربطة العنــق ولا الطربوش المغربي المميز بنقاء لونه، ولا يلبس إلا البدلة  "الرسمي" وحذاء يلمع من بعيد ، فلم يلبس الشروال ولا الصدرية المقصبـة . 

وفي ذات يوم وصل عمي نجيب إلى بيت عمي محمد في شحيم زائراً نشيطاً وهمس في أذن شقيقه الأصغر بأن هناك بنت حلال في بلدة عانــوت ويفكّــر جديــاً بطلبها للزواج، فما كان من عمي محمـد إلا أن وافقه الرأي وطلب منه تحديد موعـد مع أهل العروس في حال موافقتهم على العريس الموعود! فأجابه على الفور أن أهل العروس بانتظار أن نحدد نحن يوماً لطلب يدهــا وأنه رتـّـب كل شيء ولم يبقَ إلا تبليغهم عن موعد زيارتنا! فتم الاتصال بوالديّ الذيْـن باركــا هذه الخطوة وتم الإتفاق على أن تكون الزيارة الساعة العاشرة من صباح يوم الأحـد أي بعد أسبوع من اجتماعهم وتم تسريب الخبر إلى أهل العروس الذين استعدوا لاستقبال العريس وأهلــه.

اجتمع الأهل والأصدقاء والمدعوين في بيت عمي "العريس" الذي ازدان بأبهى حلّــة حيث ارتدى الشروال المقصّــب والصدرية المزخرفة والطربوش الخمري على أهبة الإستعداد ، طالباً من أخويــه سرعة التحرك للوصول في الموعد المحدد ، وغادر الوفد بعد ذلك بقليــل مؤلفاً من خمس سيارات ،، وما أن وصل الوفد إلى بيت أهل العروس في عانوت حتى بادرت النسوة إلى الزغردة بـ "الآويهــا" مرحبيــن بالضيوف والعريس في المقدمة يمشي بخطىً واثقة ودخل الوفد إلى بهو البيت القديم الذي زيّنتــه النسوة بالورود والأزاهيـر ، وسبق أن اتفق وفد العريس أن يقوم عمي الأصغر محمد بطلب يد العروس ، وبعد الترحيب والمجاملات "اللازمـة" ودردشة من هنا وكلمة من هناك ،،، بدت العيون شاخصة في بعضها البعض وكأنها تطلب من عمي محمد البدء بالكلام حسب "البروتوكول" المعتمـد، فاستدرك ممازحاً الحضور ،،، لن أبدأ الحديث إلا بعد أن أرى العروس ، فأتوا بالعروس وقد تألقــت بـ "الوربة" على رأسها و "الَبََرَق والسِّيلان" يتلألأ من أطرافها، وقفت بخجــل أمام الحضور وعلت وجهها ابتسامة عريضة ... ثم بدأ حديثه متوجهاً إلى اهلها قائلاً : بسم الله الرحمن الرحيم، لقد توكلنا على الله ودخلنا هذا البيت الكريم من بابه العريض ، جئناكم راغبين بطلب يد كريمتكم "فلانة"  لشقيقنا نجيــب على سنـّــة الله ورسوله ، وكلنا أمــل أن توافقوا على طلبنا هذا ... عندها انطلــق صوت من بين الحضور يقول "عطيناكم " وعلى نيــة القبول تمت قراءة "سورة الفاتحــة" وأصبحت العروس خطيبة عمي نجيب رسمياً، وفيما كان الجميع منهمك بالأحاديث الجانبية وتجاربهم في الحياة وإسداء النصائح لبعضهم البعض ، تسلل عمي محمد إلى المطبخ حيث العروس منهمكة بتحضير الغــداء للمدعوين ، وطلب منها الحديث على "جنب" ولبت دعوتـه في الحال ، وقال لها ... "يا فلانة شو بدك بخيـّـي ... راح تتعبي معو وتتبهدلي ... راح تفرطي زيتون وتنكشي تحت المطاعيم وتقشقشي الشوك تحت الزيتون ، وأنتي بعدك بعــزّك وحرام هالقامة تتبهدل... ليش ما بتاخديني أنا ؟ " فكان جوابها أسرع من البرق " ليش لأ يا محمد" واتفقا على أن تكون هي خطيبة محمد وليس نجيب ! وبعد أن تغدى المدعوون وغادر وفد العريس بيت العروس ،،، داب عمي محمد على شراء الهدايا والبقلاوة متجاهلاً عودته إلى بيروت بعد أن أنجز ما عليه وطلب العروس "له" بدل أن يطلبها لشقيقه... وفي صبيحة اليوم التالي،،، استقل عمي محمد "العريس الجديد" سيارة تاكسي إلى بيت العروس محملاً بالهدايا حيث كانت هي قد أبلغت أخويها وأمها بأنها اتفقت مع محمد على الزواج وليس نجيب ! وبالفعل رحب أهل العروس بالوافد الجديد عريساً يلبس "فرنجي" بدلاً من عريس يلبس الشروال... وبعد وصول عمي محمد "العريس الجديد" إلى بيت العروس بثلاث ساعات تقريباً ، وصل عمي نجيب في اول زيارة له بعد طلبها له ، فوجد شقيقه الأصغر عمي محمد جالس إلى العروس في "قعدة رومانسية" ولا أجمل يطعمها من يده ،،، ففوجىء يما يراه ،،، وسأله إن كان طلب العروس له أي لنجيب ؟ أم لنفســه !   حيث بــادر نجيب "العريس المفترض" إلى القول واللــه يا محمد أنت أكلت وجــه الطنجرة، بس أنا حتى اللـزاقة ما طلع لي أكلها "

وتزوج عمي محمد من العروس ،،، وأصبحت قصتهما على كل لســان

هذه هي حكاية عمي نجيــب