مساحة التقاء بين الكتائب و«التيار الوطني»...

للمتن نكهته الانتخابية الخاصة التي تميزه عن بقية المناطق. في الانتخابات الرئاسية مرشحوه «بالجملة». في الانتخابات النيابية له حصة الأسد من الاصطفاف السياسي. في الانتخابات البلدية والاختيارية لكل مدينة وبلدة معركتها التي تساوي «معارك الوطن».

وإذا كانت هموم «كبار» السياسيين تنصب على «القضايا الكبرى» من أزمة حكومية إلى تجاذب إقليمي يتسلل من خلف الحدود، فإن اهتمامات «صغارهم» اليوم، لا تتجاوز حدود البلديات.
كثيرة هي البلدات المتنية التي توضع بلدياتها في دائرة الضوء، لا سيما في ساحله، بدءاً من سن الفيل، برج حمود، الدكوانة، الجديدة، الزلقا، وصولاً الى الضبية، صعوداً نحو الجرد، من بيت شباب، بكفيا، بسكنتا، والمتين، نزولاً نحو برمانا، المنصورية، وغيرهما...

أكثر من مئة بلدة متنية، تنتشر على مساحة القضاء الذي يحده نهر بيروت ونهر الكلب ساحلاً، ليست ممثلة جميعاً في مجالس بلدية، أو في الاتحاد البلدي، وإن كان الكثير من هذه البلدات يتمتع بالمواصفات القانونية التي تسمح له بالتمثيل البلدي، منها عل سبيل المثال المطيلب، البياضة، قرنة الحمرا، جورة البلوط وغيرها، التي شهدت حركة عمرانية وسكانية خلال السنوات الأخيرة، في حين أن بلدات صغيرة كالغابة مثلاً المحاذية لبلدة برمانا تتمتع بالاستقلال البلدي.

ولاتحاد بلديات المتن حكاية خاصة تفرد لها المساحة. يضم بلديات من الساحل والوسط من دون الجرد، باستثناء بلدية بتغرين التي تترأس الاتحاد بواسطة ميرنا المر منذ عام 1998، ولذا يطلق عليه اسم اتحاد بلديات المتن الشمالي الساحلي والأوسط. إنجازات الاتحاد ليست بقليلة، منها «مركز اميل لحود للمؤتمرات» الذي بات يعرف بـ«قصر المؤتمرات»، لأسباب سياسية. والعيون شاخصة اليوم على الاتحاد، الممر الإلزامي لكل المشاريع الإنمائية، والموقع الخدماتي الأول، الذي يفرض على البلديات نسج علاقات طيبة مع رئاسة الاتحاد، لتمرير مشاريعها. وعشية الاستحقاق البلدي تسجل بعض محاولات التفلت من تحت الجناح «المرّي»، لا سيما على مستوى الاتحاد، قد تكون مؤشراً لمسار الانتخابات المنتظرة في بعض البلدات.

بلديات المتن = ميشال المر. معادلة تكرست منذ إجراء الانتخابات البلدية للمرة الأولى بعد «الطائف» عام 1998، حيث تمكن الرجل من الإمساك بالعصب النابض لقضاء المتن من خلال مجالسه المحلية، ونجح في احتضان عدد كبير من رؤساء المجالس البلدية بعد دعمهم لهذه المواقع، بمعزل عن خياراتهم السياسية، وهي نواة المجموعة التي أطلق عليها لقب «كتائب المر» لكون معظم هؤلاء رؤساء أقسام سابقين في حزب الكتائب، ممسكين للأرض تبعاً لخبرتهم الحزبية.

استطاع المر طوال أكثر من إحدى عشرة سنة، بناء «مملكة البلديات» التي تتيح له تواصلاً مباشراً مع الجمهور المتني من دون أن يتكبد الكثير من العناء، ولهذا فهو يحرص خلال الاستحقاقات النيابية دوماً على تظهير صورة «امبراطوريته» البلدية والاختيارية كعامل قوة يضاف إلى رصيد نفوذه في المنطقة.

ليس مستغرباً أن يستخدم المر هذه الورقة كلما وجد نفسه في «بيت اليك»، أو بالأحرى عندما يحشر من جانب الحلفاء والخصوم على حدّ سواء، وهو الذي تمكّن خلال الانتخابات البلدية الأخيرة التي أجريت عام 2004 من تحقيق فوز ساحق بوجه خصومه. يومها خاض المر المعركة متحالفاً مع الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب الطاشناق، وإن شكل هو العمود الفقري لهذا التحالف، بوجه ما كان يسمى «المعارضة المسيحية»، من «التيار الوطني الحر»، حزب الكتائب، «القوات»، وحزب الوطنيين الأحرار، الذين كانوا يجربون «حظهم» البلدي للمرة الأولى منذ ولادة وثيقة الوفاق الوطني. كانت النتيجة تسجيل انتصار ناصع البياض لـ«دولة الرئيس» الذي أثبت يومها أنه «زعيم البلديات» من دون منازع.

في تلك المرحلة كان حزب الكتائب ما يزال «بيوتاً» عدة في البيت المركزي، فيما يحاول بيار الجميل لملمة إرث العائلة. أما «التيار الوطني الحر» فكان تنظيماً طري العود، قائده منفي، وحركته تحت مجهر السلطات الأمنية والسياسية.

الصورة اختلفت اليوم، والاصطفافات السياسية باتت من نوع آخر. «التيار الوطني الحر» في مقلب واحد مع الحزب القومي والطاشناق، فيما التفاهم النيابي يفترض وجود المر مع حزب الكتائب والقوات في جبهة واحدة.

قواعد لعبة جديدة

ورغم وضوح هذا الفرز، فإن حسابات القوى باتت متداخلة، ولعبتها في الانتخابات البلدية باتت تقتضي وضع قواعد جديدة:

ـ تحاذر مختلف القوى المتنية، اللعب على الوتر السياسي كي لا تحرق أصابعها في أتون الخلافات العائلية، فتراها تترك للقوى المحلية هامشاً من التحرك، لتقول كلمتها.
ـ يدرك «دولة الرئيس» أن العيون شاخصة على «مملكته البلدية» ويخطط الكثيرون، الأقربون قبل الأبعدين، لاقتسام هذه «الثروة» ووضع اليد عليها، بفعل الواقع الجديد الذي أرسته نتائج الانتخابات النيابية.

ـ يسعى «التيار الوطني الحر» الذي أثبتت حساباته في الاستحقاق النيابي، أنه الرقم الأول في المتن، إلى تكريس هذه المعادلة على المستوى البلدي والاختياري، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل مدينة وبلدة.

ـ يطمح حزب الكتائب، الذي تقاسم بطريقة «غير شرعية» بعض البلديات مع المر، إلى انتزاع حصته من فم حليفه، لاستعادة موقعه كزعامة محلية، من دون أن يستكين لحركة حلفائه «القواتيين» المتنيين التي بدأ يتوجس منها.

ـ يلعب حزب الطاشناق دوراً حاسماً في بلدية برج حمود، ودوراً مرجحاً في بلديات الجديدة، الزلقا، انطلياس، بصاليم، الفنار... ومن شأن وقوفه إلى جانب حلفائه أن يغير من بعض المعادلات المحلية.

حتى الآن لم تظهر بعد مؤشرات المعارك في البلدات المتنية، الدفّة لا تزال بيد رؤساء البلديات، ومشاريع مرشحين، نادرين، حتى اللحظة. يخفت صوت المدفع، ليترك الفضاء لتواصل «مشبوه» بين قوى محلية من جبهات متخاصمة في السياسة، قد يملأ الفراغ، ويزيح السياسة جانباً لبعض الوقت. دعاة الائتلاف «الهجين» كثيرون، ورؤساء البلديات الطامحون للبقاء في مواقعهم، أولهم. بلدية سن الفيل تفتتح «الجولة»، ستكون لمعركتها طابعها الخاص، ملامحها تلوح في الأفق، عبدو شاوول يتهيأ لمنافسة رئيس البلدية نبيل كحالة.

أولويات «التيار» البلدية

الاستعدادات لدى «التيار الوطني الحر» لا تزال خجولة، بعض الكلام في لقاءات وجلسات محدودة، علماً بأن العماد ميشال عون أصدر تعميماً داخلياً يمنع فيه قياديي «التيار» وناشطيه من التعاطي بهذا الاستحقاق. نواب متنيون يقودون حركة خفيفة، يستقبلون «مشاريع مرشحين»، ويستمعون إلى آراء العائلات، يجسون نبض الشارع، من دون أن يعطوا أي كلمة فصل في أي بلدة أو مدينة.

للانتخابات البلدية خصوصيتها، تنبع من التركيبة العائلية لكل مدينة أو بلدة، لا يزال لهذا العامل القوة المرجحة في مسار الاستحقاق، يأتي من بعده العامل السياسي، لا سيما في البلدات الصغيرة. ولهذا فإن الاعتبار العائلي، هو الذي يسبق غيره في سلم الاعتبارات التي يضعها «التيار الوطني الحر» لخريطة طريقه لخوض الانتخابات البلدية. «إذ لا يجوز القفز فوق الاعتبار المحلي، لأن المطلوب هو مساعدة الهيئات المحلية كي تقوم بواجبها الإنمائي، وتطوير خدماتها، وخلق حالة استقرار في القرى والبلدات المتنية. وفي الوقت الذي يتجه فيه العالم إلى تكريس اللامركزية الإدارية، يصبح من واجب القوى الحزبية أن تتيح لهذه الهيئات المحلية مساحة من الحرية لاختيار من يمثلها في الإدارات بمعزل عن الخلافات السياسية، شرط أن تساهم هذه القوى في تغيير الذهنية التي تدار بها هذه الإدارات».

المطلوب برأي عضو «تكتل الإصلاح والتغيير» النائب ابراهيم كنعان هو «خلق حالة دعم لقوة دفع الخيارات الأهلية». وإن كان هذا المخرج «ليس من باب عدم تسييس المعارك للهروب من مستنقعها الذي قد يغرقه في وحولها، على اعتبار أن التيار سيخوض المعارك السياسية في حال فرضت عليه ولن يهرب من المواجهة».

الهدف من خوض الانتخابات البلدية، كما يقول كنعان، «ليس الانقلاب على أشخاص أو قوى موجودة اليوم في الإدارات المحلية، وإنما تكريس أداء جديد، ولا مانع من التعاون مع أي شخص قد يكرسه، لا سيما إذا كان يحظى بالتفاف عائلي، لأن الهدف ليس تحويل البلديات إلى مواقع قوى حزبية، أو استخدامها من باب النكايات، أو اللعب على وتر الخلافات والتناقضات داخل العائلة الواحدة من أجل تحقيق مكاسب سياسية».

مبدأ «التفاهم» أو «الائتلاف» مطروح على طاولة «التيار»، لا سيما حول شخصيات غير حزبية تتمتع بالمواصفات المطلوبة للموقع البلدي، ولهذا فإنه يسقط «الفيتوات» السياسة عن اعتبارات الانتخابات المحلية ولن تكون السياسية عائقاً أمام مشاريع الالتقاء العائلية الطابع، طالما أن هذا الالتقاء هو لمصلحة المتن، وإن كان «من الصعوبة على شخصيات من العهد السابق أن تكون أهلاً لصناعة التغيير، مع بعض الاستثناءات».

يؤكد كنعان: «إذا فرضت المعارك السياسية علينا فسنخوضها بكل روح ديموقراطية، إلا أنه من غير المسموح أن يكون قرار أي بلدة في بلدة أخرى، ولذلك سيكون التيار بمثابة قوة دفع لتحرير القرى والبلدات المتنية، تمهيداً لإقرار مبدأ اللامركزية الإدارية الذي يفترض ملاقاته من خلال رؤساء مجالس محلية متأهلة للعب هذا الدور».
معركة اتحاد البلديات طموح مشروع برأي «التيار»، «طالما أن هناك حالات هدر للطاقات والفرص الإنمائية، ولا بدّ من إعادة دراسة تكوين هذا الاتحاد»، ولكن النتيجة النهائية للانتخابات فهي وحدها تحدد أحجام القوى وقدرتها على المنافسة على رئاسة الاتحاد.

الاستراتيجية الكتائبية

يكاد يكون مشهد إدارة المعارك محلية، متناغماً بين «التيار الوطني الحر» وحزب الكتائب، في تغليبهما الطابع العائلي، الذي يزيح العامل السياسي جانباً بعض الشيء. وفي تقدير الكتائب كما يوضح عضو المكتب السياسي ألبير كوستانيان، فإن «كلّ حالة ستدرس على حدة، ما من معيار موحد للانتخابات البلدية، وإن كان هناك تشجيع من القيادة الحزبية للعائلات بالسير في خيار التوافق المحلي لتجنيب القرى والبلدات المتنية معارك لا طائل منها، غير أن ذلك لا يعني أن الحزب سيهرب من المواجهة السياسية في حال فرضت عليه، لا سيما في الساحل، المعرّض لمعارك سياسية أكثر من غيره، علماً بأن نتائج الانتخابات النيابية تخوّل الحزب أن يكون صاحب كلمة فصل في الاستحقاق البلدي، وقوة ريادية».

وإذا ما استمر الاصطفاف السياسي على حاله، والمرجح أن يستمر، فسينعكس هذا الفرز على المعارك السياسية الطابع، بسبب الهوة الكبيرة التي تبعد بين الفريقين، «غير أنه من الصعب إسقاط التحالف النيابي بشمولية على الاستحقاق البلدي، وإن حصل فسيكون بنسبة أقل»، بحسب كوستانيان.

لم يبدأ التنسيق بعد بين حليفيْ الانتخابات النيابية الكتائب والمر، ولكن «الكتائب ستبادر إلى التنسيق مع مختلف القوى العائلية التي يتشكل منها نسيج المر السياسي، علماً بأنه سيصار إلى متابعة كل ملف بملفه. ولن يكون هناك تفضيل للمرشحين الحزبيين على غيرهم».

وعلى هذا الأساس «لا مانع من الالتقاء مع «التيار الوطني الحر»، لأن الكتائب من دعاة التوافق المحلي، مستبعدة التوافق مع قوى حزبية تتناقض معها عقائدياً».
أما رئاسة الاتحاد «فليست هدفاً بحد ذاته، وإنما للحزب مشروعه الإنمائي المتكامل الذي قد يتطلب تنفيذه، المرور ببوابة الاتحاد».

 

كلير شكر