Baldati

مارسيل عيراني المصدر: موقع النّشرة - لبنانالتّاريخ: السبت 14 آب 2010 دير سيدة إيليج: مقام لـ18 بطريركاً مارونياً يلخّص في أيقونة تاريخية علاقة المورانة بالعذراء مريم أيقونة سيّدة إيليج
أيقونة سيّدة إيليج
"...فها منذ الآن تطوبني جميع الأجيال، لأن القدير صنع بي العظائم، واسمه قدوس ورحمته إلى جيل فجيل للذين يتقونه..." (لو، 48-50).
من المسبحة التي ترافق أنامل المسيحيين، إلى المزارات التي تزين منازلهم، وصولاً إلى الأناشيد التي ترافق احتفالاتهم الروحية، مروراً بالحركات الرسولية التي أسست على اسمها... كل هذه وأكثر من ذلك بكثير هي علامات حضور القديسة مريم، سيدة الإنتقال وملكة السلام، في الحياة اليومية لكل مؤمن.
مريم، ابنة هذا الشرق، ومنه أصبحت أماً للعالم أجمع، تخصص لها الكنيسة عددا كبيراً من الإحتفالات والأعياد لتكريم تلك التي عرفت معنى الخدمة والتواضع فرفعها الله، وأصبحت سلطانة السماوات والأرض.
في الـ15 من آب من كل عام، تحتفل الكنيسة بعيد انتقال السيدة العذراء إلى السماء بالنفس والجسد. وفي هذه المناسبة، قمنا بزيارة أحد أبرز مقامات القديسة مريم في لبنان، وهو مقام ذات قيمة مميزة في قلب الموارنة خصوصاً لإحتضانه إياهم لأعوام وأعوام، ولإيوائه البطاركة الأبطال ليس كصرح كبير بل كمغارة فقيرة ولحفاظه على صفحات تاريخية دفع خلالها رجالاً ونساءً أرواحهم في سبيل البقاء والإستمرار... إنها كنيسة سيدة إيليج.

دير سيدة إيليج: شاهد حي على أزمنة الإضطهادات ودماء الشهداء


عندما تصعد في قرى جبيل وتصل إلى ميفوق، تستوقفك كنيسة مربعة ذات هندسة فريدة بنيت وفقاً لأصول الفن الشائع قبل الأشكال الغوطية الكبرى. إنها كنيسة دير سيدة إيليج.
شيدت هذه الكنيسة على أنقاض معبد وثني لإله اللجج والأعماق في عهد البطريرك الماروني بطرس الأول. وفي ذلك المكان تولى الكرسي الرسولي 18 بطريركا واستقروا هناك بين عامي 1121 و1440، ومن أبرز هؤلاء: بطرس الأول (1120-1130)، يوحنا اللحفدي (1151-1154)، ارميا العمشقي (1199- 1230) الذي انتخب في إيليج ثم انتقل إلى دير سيدة يانوح في سنة 1213، دانيال الشاماتي الذي انتخب عام 1230 أيضاً في دير إيليج وبسبب الفتن والحروب انتقل إلى دير كفيفان، ثم ذهب إلى دير مار يوحنا مارون كفرحي وفي سنة 1236 كان قاطنا في دير مار جرجس الكفر. توفي عام 1239، وصولاً إلى البطريرك جبرايل حجولا الذي مات شهيداً سنة 1367 إبان حكم دولة المماليك على يد سلطان مصر شعبان أشرف الذي أحرقه خارج مدينة سوار مدينة طرابلس، وآخر بطاركة إيليج كان يوحنا الجاجي الثاني الذي انتخب في دير سيدة إيليج سنة 1404، ثم نقل كرسيه إلى قنوبين سنة 1444 ورقد هنالك بعد عام، وهو أول بطريرك سكن قنوبين.
وبعد أن هجر البطاركة سيدة إيليج، جعلها آل حمادة مركزاً لحكمهم وتعاقبوا عليها حتى عام 1686 حين دارت حروب قرب الدير. وفي سنة 1766 تسلمت الرهبانية اللبنانية المارونية المعبد والدير من الأمير يوسف شهاب فرممت ما انهدم منه وجددت البناء عام 1786.
وأصبح الدير مصنفاً كمكان أثري في تسعينات القرن الماضي بعد أن جدد مرة أخرى بين عامي 1945 و1950 أبان رئاسة الأب نعمة الله خوري الكفوني.
الداخل الى هذه الكنيسة لا يمكنه الاّ وأن يصلّي بالسريانية مع الكتابات المنقوشة على جدرانها والمعربة كالتالي:
الكتابة الأولى: "باسم الله الحي للدهر في سنة 1588 ليونان (1277 م) كمل بنيان دير والدة الله مريم، لتكن صلاتها معنا على أيدي الرجال الخطأة. القس داود وبطرس ويوحنا". كما نقش الصليب وعلى جوانبه الآية السريانية: "بك نقهر أعداءنا وباسمك نطأ مبغضينا".
أما الكتابة الثانية فمحفورة على الحائط العالي حيث نقش بالسريانية خطٌّ يؤرخ زمن تجديد البناء: «باسم الابن الحيّ الدائم. في سنة 1746 مسيحية تجدّد هذا الهيكل على يد الأخوين الكاهنين أمّون ومينع. وهو من صنَع أربعة بطاركة، بطرس وارميا ويعقوب ويوحنا عام 1121».
وتجدر الإشارة إلى تقليد متعارف عليه رغم عدم تأكيده علمياً وتاريخياً، يقول أن الرسل ساروا على الطريق الروماني المؤدية من بعلبك وضفاف العاصي إلى الساحل الفينيقي الشمالي، وأن مبنى الدير أخذ مكان إحدى محطات هذه الطريق، وبالتالي، فإن الرسل والمسيحيين الأوائل مروا في ذلك المكان خلال تنقلاتهم بين انطاكيا وشواطئ فلسطين.
وفي ذلك الدير، بالإضافة إلى الغنى الروحي والتاريخي الذي يحمله، كنزٌ ثمين يلخص روحانية الآباء الموارنة في أقدم أيقونة عرفتها الكنيسة المارونية.

الإرث الثقافي والتاريخي للأيقونة


إنطلاقا من هنا، لا بد لنا من الوقوف أمام هذه الصورة، صورة سيدة ايليج التي تختصر بذاتها حقبة إيقونوغرافية تمتد من القرن العاشر حتى يومنا هذا. فمن أين أتت هذه الصورة؟
وجدت الأيقونة في المقرّ البطريركي الماروني في منطقة القطارة-ميفوق، ولقد رافقت البطاركة الموارنة حتى رحلوا إلى وادي قنُّوبين، وبقيت الأيقونة محفوظة في صندوق قياسه 100×1.50، ولكنَّه لم يتم المحافظة عليها بشكل جيد فتعرضت للعديد من العوامل السلبية، من اضطهادات وحريق بالإضافة إلى عوامل أخرى مما أدى إلى تشويهها عند الأسفل. ولهذا السبب، اتخذت الرهبانية المارونية قرارا بترميمها لدى راهبات كرمل الوحدة أم الله في حريصا الذين يعتبرون متخصصين بهذا المجال، وذلك عام 1985. فاتخذ الترميم حوالي الـ6 أعوام، بحسب ما أكد لنا أستاذ في مدرسة ميفوق أنطوان معوض. لما بوشر بالدراسات المختبرية والتصوير بمختلف الأشعة كانت المفاجأة، حتى للرهبانية اللبنانية عينها، إذ اكتشفوا أن هذه الصورة تحتوي على عدة طبقات تصويرية متراكمة ترجع اقدمها إلى القرن العاشر، أي إنها بحد ذاتها ثروة تاريخية وفكرية وإرث كبير من الآباء والشهداء والبطاركة. وأوضح معوض في الإطار عينه أنه "قبل ترميمها، لم يكن أحد يعلم عن عمرها، وكانوا يعتبرون أنها رسمت قبل 200 عام كحد أقصى، ولكنهم اكتشفوا في ما بعد أنها أقدم أيقونة مارونية في لبنان وبلدان الإنتشار، وليس في بلدنا أقدم منها إلا أيقونات الروم الأرثوذكس المشهورين بهذا العلم وهذا الفن".
وألقى الضوء على 3 أمور أساسية في الأيقونة: أولاً، الشمس والقمر اللذان يظهران في أعلى الأيقونة للإشارة إلى أن العذراء مريم هي سلطانة الليل والنهار. ولكن هذا الرمز تحول على مر الزمن وبعد سلسلة الترميمات إلى رأسي ملاكين بأعلى الأيقونة في الطبقة العاشرة منها، معتبراً أن "ذلك قد يكون نتيجة التأثير الغربي".
ثانياً، أشار إلى وجود ثلاثة نجوم: واحدة على جبين العذراء وأخرى على كتفها الأيمن وفي يدها اليسرى تحمل يسوع، وهو النجمة الثالثة وهذا يرمز إلى الحبل بلا دنس، إلى العذراء التي حبل بها دون الخطيئة الأصلية.
ثالثاً، لفت إلى ان اللونين الطاغيين على الأيقونة هما اللون الأزرق واللون الترابي. وفي علم الأيقونات، يرمز اللون الأزرق إلى الديمومة ، واللون الترابي إلى كل ما هو زائل. والعذراء في هذه الأيقونة تجمع اللونين، أي ان الله وشحها باللون الأزرق لكي تكون أماً لله الإبن.
وبالإضافة إلى ذلك من الملاحظ بشكل واضح وجود هالة حول رأس العذراء، هي عبارة عن إثني عشرة قطعة نقديّة، مستوحاة من سفر الرؤيا، الذي يتكلّم على المرأة الجديدة، وعلى رأسها إكليل من إثني عشر كوكبًا وتحت قدميها القمر، وهي حوَّاء الجديدة التي أعطت الحياة.
وتجدر الإشارة إلى أن التصميم الأساسي يظهر لنا صورة "العذراء الموجهة"، من النوع السرياني العريق الذي يعود إلى الأجيال المسيحية الأولى. وهذا النوع انتشر في إيطاليا بواسطة الجاليات السريانية الهاربة من اضطهادات بلدانها. ومن الخصوصيات السريانية في صورة سيدة إيليج أيضاً فتحة المنديل حول رأس العذراء.
إن اكتشاف هذا الإرث منذ أعوام قليلة هو علامة رجاء لم تقبل العذراء القديسة إلا وأن تتركها في قلب الكنيسة المارونية في هذه الحقبة من التاريخ. فهذه الكنيسة التي واجهت كل الصعاب باتكالها على الله وعلى تضرعات مريم، والتي واظب أبناؤها وآباؤها على الصلاة في كل حين وكلما كثرت الشدائد. فما من مقر بطريركي إلا وحمل اسمها، من سيدة يانوح إلى سيدة إيليج وصولاً إلى سيدة قاديشا وسيدة بكركي.
وبمناسبة عيد انتقال السيدة العذراء، تتحضر كنيسة سيدة إيليج، وقرية ميفوق عموماً لتنضم لسائر القرى اللبنانية للإحتفال بهذا العيد. وهنا يأخذ العيد طابعاً روحياً إذ يجري الإحتفال به من خلال مسيرة تنطلق من ساحة دير ميفوق باتجاه دير سيدة إيليج حيث يتم الإحتفال بالقداس الإلهي⁠⁠⁠⁠