وردة يهدم ما بناه في بيروت

لا يمانع وزير الثقافة سليم وردة، في مغادرة وزارته مع هامش خطأ نسبته 4%. لكن عندما نعرف لمصلحة مَن صبّ هذا الهامش، ترتفع النسبة أضعافاً مضاعفة. حملة حماية بيوت بيروت انتهت بتواقيع هدم

جوان فرشخ بجالي - الأخبار
فهد رفيق الحريري، ميشال فرعون، أنطوان سماحة وفؤاد زيدان هم أصحاب العقارات الأربعة في بيروت التي أعطت وزارة الثقافة الإذن بهدم البيوت التراثية المشيّدة عليها... لإعادة بنائها من ضمن المباني الحديثة. هذه هي خلاصة ما جرى في الأسابيع القليلة الماضية في أروقة وزارة الثقافة، التي كانت حتى الماضي القريب، ترفض قرارت الهدم.

لكن طلبات هدم مقدّمة من أربع شخصيات نافذة، تنتمي كلّها إلى فريق سياسي واحد، تستحق التضحية بالرصيد الذي كان سيخرج به وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال سليم وردة من الحكومة. الرجل الذي أطلق قبل سنة تقريباً حملة وطنية لإنقاذ هوية بيروت التراثية، واستطاع أن ينتزع من مجلس الوزراء قراراً بمنع هدم البيوت، وأسّس لجنة استشارية تشرف على مختلف طلبات الهدم التي تقدّم لبلدية بيروت لتقرير مصير البيوت، قرّر بأربعة تواقيع هدم كلّ ما بناه... ولا سيما صدقيته، وخصوصاً بعد استقالة اللجنة الاستشارية التي رفضت قرار الهدم. هذه اللجنة عمل مهندسوها لأشهر، مجاناً، وقدّموا عملهم، كما رصيدهم، في خدمة مشروع حماية بيوت بيروت ونجحوا فعلاً في حثّ الوزير على وقف أكثر من 40 طلب هدم. فما الذي جرى؟

عملياً، لا يعترف القانون بقرار الوزير القاضي بمنع الهدم؛ لأنه لا يسمح لأحد بأن يوقف هدم أبنية غير مصنّفة. إلا أن وردة بقراره الأخير وفّر على أصحاب العقارات أعلاه الوقت الذي قد يتطلبه رفع دعاوى قضائية أمام مجلس شورى الدولة بهذا الخصوص، مع العلم بأنهم قد يربحونها. من هذا المنطلق، يبرّر وردة لنفسه قائلاً: «التسوية مع المحافظة على الواجهة أفضل من قرار منع الهدم الذي قد يطعنون به». ويوضح أنه لم يوافق إلا على 4% من طلبات الهدم التي قُدّمت «وهي نسبة ضئيلة».

لكن، فلنحدّد هذا النوع من التسوية التي تبدو كالضحك على اللحى؛ إذ لا يمكن اعتبار هدم مبنى لإعادة بنائه بحجارته، محافظة عليه. فالمبنى إن هدم، لن يكون إلا مبنى مهدوداً. ولا منفعة من إدخال الواجهة ضمن المشروع الهندسي الجديد، وخصوصاً إذا كانت خلفيتها برجاً من ثلاثين طبقة؟ إنها تسويات للمحافظة على التراث بصيغة لبنانية. فالمحافظة على الواجهة (في الدول المتحضرة) تسمح بتغيير الشكل الهندسي من الداخل، لكن من دون هدم وإعادة بناء، أو إدخال المبنى ضمن برج عالٍ!

أما التبرير الثاني، فهو أن أصحاب العقارات تضرّروا من قرار الهدم؛ لأن مشاريعهم توقفت. وهذا أيضاً مرفوض، ما دامت العقارات لا تزال ملكهم، وملايينها بين أيديهم. الضرر الذي يحكون عنه، هو «خسارة» الملايين التي «سيجنونها» من هذه المشاريع. خسارة لم يعتد النافذون في لبنان قبولها، الأسهل أن تخسر بيروت هويتها.

المضحك المبكي هو في هوية الأشخاص الذين أعطيت الرخص لهم. ففي منطقة مار مخائيل (عقار 633) اشترى الحريري مبنى السينما وكل العقارات المحيطة به لتشييد مجمّع ضخم، يحافظ فيه على واجهة مبنيين. وفي الأشرفية (عقار رقم 633) ملك فرعون، أعطيت الرخصة بهدّ البناء وإعادة بناء واجهته بعد إنشاء المواقف المطلوبة والتراجع عن الطريق، وإضافة ثلاث طبقات إلى المبنى. السيناريو نفسه يتكرّر في السوديكو (عقار 5) ملك فرعون وسماحة. أما بيت عبد الله اليافي، الذي يمكن تحويله إلى متحف رائع أو ملتقى ثقافي، فسيُهدَم ويُعاد بناؤه بعد الانتهاء من تشييد برج من ثلاثين طبقة ملاصق له.

المبكي أن وزارة الثقافة، عندما استحدثت قرار منع الهدم، أرفقت به قراراً بإتمام جردة كبيرة لبيروت لتحديد أحيائها التراثية، لكن لم يعمل حتى اليوم على استدراج عروض الشركات الخاصة لإتمام هذا العمل. التأخير يردّه البعض إلى «البلدية أولاً؛ فهي المموّل للمشروع، وهي من لا تتناسب المحافظة على النسيج العمراني مع سياستها في ازدهار الأبراج العالية».

من دون جردة جديدة، من دون تحديد وحماية مناطق تراثية بأكملها، من دون قرارات بمنع البنايات الشاهقة في الأحياء القديمة، يبقى مصير التاريخ بيد رأس المال وأصحابه.